إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الفتوى









المعنى الشرعي

الفصل الثالث

تغيّر الفَتْوَى واختلافها بتغيّر ظروفها

قد تتغير الفَتْوَى، باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال؛ إذ أساس الشريعة ومبناها، مصالح العباد في المعاش والمعاد. ومن أمثلة تغير الفَتْوَى بتغير الزمان والمكان، أن النبي نهى أن تُقطع أيدي السارقين، في الغزو، فقد ورد: "أَنَّ بُسْرَ بْنَ أَرْطَأَةَ، وَجَدَ رَجُلاً، سَرَقَ فِي الْغَزْوِ، يُقَالُ لَهُ مَصْدَرٌ، فَجَلَدَهُ؛ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ. وَقَالَ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ الْقَطْعِ فِي الْغَزْوِ" (أحمد: 16968). فهذا حدّ من حدود الله، نُهي عن إقامته، في الغزو؛ خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله، أو تأخيره، من لحوق صاحبه بالمشركين، حمية وغضباً. وقد نص عدد من العلماء على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وعند المجاعة. ومن ذلك، أن عمر بن الخطاب، أسقط القطع عن السارق، في عام الرّمادة.

إن المجتهد أو الفقيه أو المُفْتِي، لا يمكنه أن يمارس عمله، إلاّ عندما يكون مطلعاً على الواقع ومجريات الأمور فيه، وصور العيش والحياة لمن حوله، سواء منها ما يتعلق بالسياسة أو الاقتصاد أو الأخلاق أو المعيشة؛ فيفتي ويجتهد في المسألة، على حسب الصورة الواضحة أمامه. لذلك، كان السلف، من الصحابة والتابعين والفقهاء، ينطلقون في فتاواهم واجتهاداتهم، من قاعدة: "تغير الفَتْوَى بتغير الزمان والمكان والأعراف والأحوال".

ولهذا، كان عمر بن الخطاب، يجتهد فيما يعرض له من الأمور، ويستشير من حوله في الحوادث، ويأمر قضاته في الأقاليم أن يفعلوا مثله؛ فيجتهدوا فيما يعرض لهم من أمور، ويستشيروا من عندهم من أهل البصيرة والعلم. وبهذا يقرر قاعدة اختلاف الأحكام الاجتهادية، باختلاف البيئات والأقطار؛ وهي نتيجة لازمة لسعة الدولة الإسلامية، وتفرق الصحابة فيها، واختلاف مشكلاتها وحوادثها.

أسباب تغير الفَتْوَى

1. النظر في العواقب

هناك كثير من الأفعال، المباحة أو المندوبة، بأدلة صحيحة، ربما ينجم عن تطبيقها، في ظروف معينة، مفاسد مبينة أو محتملة. لذلك، فلا تُطبق حتى تُستوفى شروط تحقيق المصلحة فيها. ومن الأمثلة على ذلك:

أ.  أحجم النبي عن قتل عبدالله بن أُبي بن سلول، رأس النفاق في المدينة؛ على الرغم من ثبوت أدلة تآمره مع الكفار، وتحالفه معهم لضرب المسلمين، وسبّه للنبي والمهاجرين، بقوله: "قد ثاورنا في بلادنا. والله! ما مثلنا وجلابيب قريش هذه، إلاّ كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. والله! لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل؛ ورميه عائشة بالزنا، في حادثة "الإفك"؛ وقوله: "لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا". وعلى الرغم من أن كثيراً من الصحابة، طلب من النبي قتل هذا المنافق؛ بل إن ابنه نفسه، وهو من صالحي الصحابة، جاء إلى النبي، وقال: إن كنت تريد قتل أبي، فمرني آتيك برأسه. إلاّ أن النبي رفض، قائلاً: )دَعْهُ، لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ( ولمّا مات هذا المنافق، كفنه النبي في ثوبه، وصلى عليه؛ على الرغم من احتجاج عمر، واستغفر له أكثر من سبعين مرة؛ متأولاً قوله تعالى: )اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً( (التوبة: 80). كلُّ هذا مراعاة لدفع المفاسد التي قد تترتب على ذلك.

ب. شكت زوجة عبدالله بن عمرو منه، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه يبالغ في عبادته فيصوم كل يوم، ويقوم كل الليل، مهملا إيّاها؛ اعتقاداً منه أن هذا يقربه إلى الله أكثر. فقال له الرسول: )أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ. قال، قُلْت:ُ إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِك.َ قَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِك،َ هَجَعََتْ عَيْنُك،َ وَنَفِهَت نَفْسُك،َ وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ حَقًّا؛ فَصُمْ، وَأَفْطِر،ْ وَقُم، وَنَمْ( (البخاري:1085). (هجعت: غارت وضعف بصرها لكثرة السهر، نفهت: كلّت وأعيت). فنهاه عن إرهاق نفسه، بتلك العبادة الشديدة، وضياع حقوق أهله، وبالتالي تتضرر مصالحه الدنيوية والأخروية، فيفوته خير كثير.

ج. عن عائشة، قالت: قال رسول الله: )أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: لَوْلا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ(. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ تَرَكَ اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ (البخاري: 1480).

في هذا الحديث بيان أنه كان يجب إعادة بناء الكعبة مرة أخرى على ما كانت عليه أيام إبراهيم عليه السلام، ولكن الرسول لا يفعل ذلك؛ لما يترتب عليه من مفاسد، فالعرب ألفوا هذا الوضع. وفي تغييره حرج عليهم، وربما ترددوا في إيمانهم بسبب ذلك.

د.  منع عمر بن الخطاب الزواج بالكتابيات؛ مراعاة لمصلحة واضحة, على الرغم من أن الله تعالى قد أحله. قال تعالى: )وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ( (المائدة: 5). ولمّا تزوج حذيفة بن اليمان امرأة يهودية بالمدائن، كتب إليه عمر أن خل سبيلها، فكتب إليه: أحرام يا أمير المؤمنين؟ فكتب إليه عمر: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا، حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة؛ لجمالهن. وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين". وفي رواية كتب إليه عمر فقال: أخاف أن تواقعوا المومسات منهن. لقد منع عمر أمراً مباحاً، هو زواج المسلم بالكتابية ؛ لما يترتب عليه من الضرر: سواء كان الوقوع في نكاح المومسات منهن؛ فتختلط الأنساب ويضيع الأولاد وتفسد الأخلاق، أو ربما يؤدي إلى ترك بنات المسلمين، ويكون الإقبال على نساء أهل الذمة، فينتشر الفساد بعدم الزواج.

هـ. سأل حميد الضمري ابن عباس فقال: إني أسافر، أفأقصر الصلاة أم أتمها؟ فقال ابن عباس: "لست تقصرها (يعني أن الصلاة في السفر ركعتَيْن سُنَّة، وهي تمام الصلاة وليس قصرها)، وإنما ذلك تمام بها، وسنة رسول الله؛ فقد خرج رسول الله آمناً، لا يخاف إلاّ الله، فصلى اثنتَيْن حتى رجع. وهكذا فعل أبو بكر وفعل عمر، ثم فعل عثمان ذلك ثلثي إمارته أو شطرها، ثم صلاها أربعاً. ثم أخذ بها بنو أمية. قال ابن جريج: فبلغني أنه أوفى أربعاً بمنى فقط؛ من أجل أن أعرابياً ناداه في مسجد الخيف بمنى: يا أمير المؤمنين، ما زلت أصليها ركعتَيْن، منذ رأيتك العام الأول صليتها ركعتَيْن، فخشي عثمان أن يظن جهال الناس الصلاة ركعتَيْن. وإنما كان أوفاها بمنى. فعثمان خليفة المسلمين يترك القصر المشروع؛ لما يترتب عليه من مفسدة تغيير الصلاة، لما أخبره ذلك الأعرابي بأنه ما زال يصلي الظهر ركعتَيْن، ومن غير سفر، اعتقاداً منه أن هذا فرضها، إضافة إلى أنه قد كثر الحجاج من الأعراب في ذلك العام.

2. تشريع لحالة مؤقتة

قالت عائشة: دف (أي توافدوا ببطء) الناس من أهل البادية، فحضرت الأضحى. فقال رسول الله (وكان قبل ذلك قد نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام) : )إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ، الَّتِي دَفَّتْ، فَكُلُوا، وَادَّخِرُوا، وَتَصَدَّقُوا( (مسلم:3643). وهكذا، لما تضايق الناس، سألت عائشة رسول الله عن الأمر، فأخبرها أن الحكم ليس دائماً، بل هو مؤقت. قال القرطبي: فلو قدم على أهل بلد أناس محتاجون، في زمان الأضحى؛ ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة، يسدون بها فاقتهم، إلاّ الضحايا؛ لتعين عليهم ألا يدخروها، فوق ثلاث، كما فعل رسول الله مع أهل المدينة. وقد صلى علي ابن أبي طالب العيد بالناس، ثم خطبهم، فنهاهم عن الادخار فوق ثلاث، مذكراً إياهم بنهي النبي. وكان ذلك يوم كان عثمان محصوراً والفتنة قائمة، والناس في فاقة وجوع. وهكذا فإن من الأحكام ما تقرر لأجل مصلحة وقتية. فإذا زالت المصلحة، رجع الحكم إلى أصله، وإذا عادت المصلحة عاد الحكم.

3. الاستثناء للحاجة

المقصود بالاستثناء هو عدم تطبيق الحكم في حق فرد أو جماعة أو حالة، في الوقت الذي يطبق على آخرين؛ لعدم وجود مبرر. ومن الأمثلة على ذلك:

أ.  قال تعالى: )قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ( (النور: 23)، حتى يعيش الناس في عفاف. ولكن عندما يخطب الإنسان واحدة، ثم يتزوجها، دون أن يراها فربما كان مخدوعاً، فيندم، وتصبح الحياة الزوجية عسيرة. فلأجل مصلحة ديمومة الحياة الزوجية، وابتعاداً عن المشكلات، شُرع النظر للمخطوبة. فقال صلى الله عليه وسلم، للمغيرة بن شعبة، لمّا أراد أن يتزوج امرأة: )انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا( (الترمذي:1007)، (أحرى: أجدر، ويؤدم: يؤلف).  فاستثنى حال إرادة الزواج من النظر حتى تدوم الحياة الزوجية.

ب. عن أبى هريرة: لما فتح الله تعالى على رسوله مكة، قام صلى الله عليه وسلم؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: )إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ النَّهَار،ِ ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة:ِ لا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تَحِلُّ لُقْطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ. فَقَالَ الْعَبَّاس:ُ يَا رَسُولَ اللَّه،ِ إِلاَّ الإِذْخِر؛َ فَإِنَّهُ لِقُبُورِنَا، وَبُيُوتِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلاَّ الإِذْخِرَ( (أبو داود: 1725). فقد استثنى مما حرم قدر الحاجة، التي سألوها، فإن المنع من الحاجة، حرج على الناس: )وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ( (الحج: 78).

4. تأجيل التطبيق

التأجيل هو عدم تطبيق حكم معين، في ظرف معين؛ لما يحدثه من مضاعفات، قد تخل بمقصود الشارع. ومن الأمثلة على ذلك:

أ.  عن زيد بن ثابت، أنه قال: "لا تقام الحدود في دار الحرب؛ مخافة أن يلحق أهلها بالعدو".

ب. وروي عن عمر، أنه قال: "ألا لا يجلدن أمير جيش أحداً الحد، حتى يطلع على الدرب؛ لئلا يحمله الشيطان أن يلحق بالكفار".

ج. عن علقمة، قال: غزونا أرض الروم، ومعنا حذيفة، وعلينا رجل من قريش. فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: "تحدون أميركم، وقد دنوتم من عدوكم؛ يطمعون فيكم!" أو قال: "نكره أن يعلموا؛ فيكون جرأة منهم علينا، وضعفاً بنا".

واختلفت التعليلات حسب الأشخاص، فبعضهم لم يحدوا؛ خوفاً من اللحاق بالعدو، وهذا في الرجل العادي في الجيش، وعلل حذيفة عدم حد الأمير، الذي سكر؛ بالخوف من أن يطمع العدو فيهم، بإهانة أميرهم. ومهما كان التعليل، فالنتيجة أن الحد أُجّل، ولم يُقم؛ لعدم تحقق المصلحة من إقامته في ذلك الظرف، وترتب مفاسد عليه. ولهذا التأجيل أصل في السُّنَّة، فقد أجلّ النبي حد الغامدية، لمّا كانت حاملاً، حتى وضعت، وترعرع طفلها.

5. تغير الحكم بسبب تغير علته

يكون الحكم مطلقاً، أو مقيداً بعلة. وإذا زالت العلة، أو تغير السبب، الذي شُرع لأجله، تغير ذلك الحكم. ومن الأمثلة على ذلك:

أ.  أعطى رسول الله المؤلفة قلوبهم من الزكاة، بعد أن جعلهم الله تعالى من الأصناف الذين توزع عليهم. فكان منهم من يعطى ليقوى إيمانه، ومنهم من يعطى ليسلم. وهكذا مضى الأمر إلى خلافة أبي بكر، عندما أعطى اثنين منهم: وهما عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس. فلما علم عمر، أخذ الكتاب منهما، ثم تفل فيه، ومحاه، وقال: "إن رسول الله كان يتألفكما؛ والإسلام، يومئذ، قليل. وإن الله قد أغنى الإسلام. اذهبا فاجهدا جهدكما؛ لا يرعى الله عليكما، إن رعيتما". فترك أبو بكر الإنكار عليه.

فهذا عمر يدرك أن التأليف كان لحاجة، وهي تقوية المسلمين. وبما أن المسلمين قد كثر عددهم، وانتهت الحاجة، فلا ضرورة، إذاً، للتأليف. ولمّا علم أبو بكر بقصد عمر، رجع عن قوله بإعطاء المؤلفة قلوبهم. وهذا دليل على أن هناك من الأحكام ما يدور مع المصلحة، ويتغير بتغيرها.

ب. روى زيد بن خالد الجهني: "أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: )اعْرِفْ وِكَاءَهَا (أَوْ قَالَ وِعَاءَهَا) وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً. ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا، فَأَدِّهَا إِلَيْهِ. قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ (أَوْ قَالَ: احْمَرَّ وَجْهُهُ)، فَقَالَ: وَمَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ. فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا( (البخاري: 89). غضب الرسول، لأنه لا حاجة لأخذ الإبل؛ فهي ترعى وترد الماء، ولا يُخاف عليها من ضياع، أو هلاك من الذئاب، أو السرقة؛ لذلك، فقد نهى عن التقاط ضالة الإبل. قال الإمام مالك: كان ذلك في زمن، كانت ضوال الإبل إبلاً سائمة، لا يأخذها أحد.

لمّا جاء زمن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أمر بتعريف ضوال الإبل، حتى إذا جاء صاحبها، أعطي ثمنها. ولمّا تولى الخلافة علي ابن أبي طالب، بنى للضوال مربداً، يعلفها فيه علفاً لا يسمنها، ولا يهزلها، من بيت المال. فمن أقام بينة على شيء منها، أخذه. وإلاّ بقيت على حالها، لا يبيعها. قال مالك: واستحسن ذلك سعيد بن المسيب.

وهكذا، ظلّ الأمر في عهد عمر على ما كان عليه في زمن الرسول. ولكن عثمان خالف ظاهر قول النبي؛ فأمر بتعريفها، ثم بيعها، فإذا جاء صاحبها، أُعطي ثمنها. أمّا علي، فبالغ في حفظها، ولم يبعها؛ فربما يتضرر صاحب الإبل من البيع، فرأى أن ينفق عليها، من بيت مال المسلمين؛ لأنها أموال المسلمين.

وفعل عثمان وعلي مخالف في الظاهر لنص الرسول، الذي كان معللاً بعلة. لكن، ظهر ما يدعو إلى تغييره. فإن تغير الناس وخوفهم من أيدي السوء، أن تمتد لأخذ الضوال، جعلهم يفهمون النص على أنه معلل.

6. استحداث أحكام

وهذا يحمل على تخصيص نص عام، أو ترك ظاهره؛ ولكن يشترط ألاّ يكون خارجاً عن القواعد والنصوص العامة، في جلب المصلحة، ودرء المفسدة. ومن الأمثلة على ذلك:

أ. إحراق عثمان بن عفان المصاحف، بعد أن جمعها على مصحف واحد.

ب. (خد علي... الأخاديد فحرق فيها الزنادقة، الذين نادوا بألوهيته)؛ فجعل عليهم أعظم العقوبات؛ لزجر الناس عن مثل قولهم.

ج. رُوي أن عمر بن الخطاب، قضى في المرأة، التي يطلقها زوجها فتتزوج غيره، قبل انقضاء عدتها، بأنها تحرم على هذا الرجل الثاني، حرمة مؤبدة؛ معاملة بنقيض مقصودها، وسداً للذريعة، وردعاً لأمثالها أن يسلكن مثل سبيلها. ولعلّ هذا يتفق مع قاعدة "من استعجل شيئاً قبل أوانه، عوقب بحرمانه".

د. كان الرسول يؤتى بشارب الخمر، فيأمر بضربه. وسار الأمر على هذا، في عصر النبوة، وعصر الصديق. فلمّا كان زمن عمر، وكثر من يشرب الخمر، وبعد مشاورة بعض الصحابة، جُعل حدُّ الخمرِ ثمانين جلدة. وهكذا فالرسول لم يحدّد مقداراً لحدِّ شارب الخمر؛ لكن، في زمن عمر، لمّا رأى، ومن معه من الصحابة، المصلحة في زيادة حدِّ الخمر وتحديده، جعلوه ثمانين جلدة.

هـ. عن أبي هريرة،: "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: سَعِّرْ. فَقَالَ: )إِنَّ اللَّهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ وَلَكِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلِمَةٌ( (أحمد: 8094).

فهذا رسول الله لا يرضى بتسعير السلع؛ ويشير إلى أن فيه ظلماً للناس؛ إذ يجبرون على بيع بضائعهم بسعر معين. ولكن متأخري فقهاء الحنفية أجازوا التسعير، عند الحاجة، على الرغم من نهي الرسول عنه، ومنع الإمام أبي حنيفة وصاحبيه منه؛ لمّا وجد المقتضى للتسعير. قال ابن القيم: "إن نهي الرسول عن التسعير، لعدم وجود ما يقتضيه. ولو كان، لفعله".

ز. أفتى الأحناف، وغيرهم، بجواز أخذ الأجر على الإمامة والأذان وتعليم القرآن، مع ورود النهي عن كل ذلك. وقالوا: الأحكام قد تختلف باختلاف الأزمان. 

7. أحكام مستنبطة من أحاديث ضعيفة

هناك أحكام أُقرت، بناء على أحاديث، ثبت أنها ضعيفة، لا يستدل بمثلها؛ والفَتْوَى بخلافها ممكنة؛ منها حديث امرأة المفقود، تصبر حتى يأتيها يقين موته، أو طلاقه. قال الحافظ ابن حجر[1]: وإسناده ضعيف، وضعفه أبو حاتم والبيهقي وعبدالحق وابن القطان. فهي، إذاً تبقى في ذمته مدى العمر، أو حتى يموت أقرانه، أو حتى يبلغ السبعين أو التسعين؛ ما يعود عليها بضرر مؤكد؛ لما فيه من إضاعة حقها، وإهدار عملها سدى. وهذا كله من دون برهان أو دليل صحيح. وإذا لم يوجد نص صريح في ذلك، فيجب النظر في القواعد والمصالح والمفاسد، وبتوازن الاحتمالات، يمكن الوصول إلى حكم، يصلح للتطبيق.

8. أحكام ثابتة بآراء شخصية ثبت خطؤها

يجوز للمُفْتِي أن يفتي بخلافها، إذا رأى المصلحة لا توجد بها؛ لأن الشرع هو ما شرعه الله ورسوله، ورأي المجتهد قابل للأخذ به أو رده. ومن الأمثلة على ذلك: ما ذكره الفقهاء في أقصى مدة الحمل، فقد اختلفوا في ذلك، فقد ذهب أبو حنيفة إلى سنتَيْن. وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أربع سنوات. فالحنفية اعتمدوا على أن المرأة لا تزيد في حملها على سنتَيْن. واعتمد مالك وغيره على قول عائشة: "سبحان الله من يقول هذا ؟ هذه جارتنا، امرأة محمد بن عجلان، امرأة صدق، وزوجها رجل صدق، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين".

ولو كان الأئمة في عصرنا، واطلعوا على أقوال الأطباء، وأهل الاختصاص، لتراجعوا عن أقوالهم بكلِّ تأكيد. ولا ينكر أن في الفقهاء القدامى، من أنكر هذا القول، منهم ابن حزم الظاهري.

فَتَاوَى تغيرت مع الزمن

إن الشريعة صالحة لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، ولكلِّ الناس. وقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال، لا تخرج عن محيط التشريع الإسلامي؛ لأنها تستند إلى أدلة جواز الاجتهاد والاستنباط، وتدور مع مصلحة الناس. فالحكم الذي بني عليه المصلحة، يدور معها. ومن المعلوم أن كلَّ مصلحة مستندة إلى دليل شرعي، فأصل الحكم موجود إذاً؛ إنما الذي رفع، أو تغير، هو تطبيق الحكم السابق، لعدم ملاءمته. وقد تكون للحادثة الواحدة عدة أحكام ثابتة في التشريع، ودور المجتهد أن ينظر فيها، فيحكم عليها بما يلائمها. فإذا تغيرت المصلحة، غير لها الحكم بما يلائمها، وربما يعود إلى الحكم الأول، الذي تركه بعد حين، إذا كانت هناك مصلحة تستدعي ذلك.

ولا بدّ من العلم بأنه ليس كلّ الأحكام قابلة للتبدل والتغير تبعاً للمصالح؛ ولكن الذي يتغير بعض منها فقط؛ لأن هناك مصالح لا تتغير، ما دامت السماوات والأرض، مثل: حلّ البيع، وعقود التجارة، والنكاح، والفضائل الخلقية، ونحو ذلك من المباحات. ومثل تحريم الربا والزنا والسرقة والظلم وسفك الدماء، وغيرها، من المحرمات اليقينية. فهذه الأمور ثابتة لا تتغير أبداً. وفي المقابل، هناك أحكام تتغير بتغير المصالح، في الأزمان والأمكنة والأحوال والعوائد. والفصل بينهما يسير ومبين في الشريعة الغراء. فالعبادات أحكامها محددة، وثابتة؛ لأن المقصود منها واحد، وهو تعظيم الله ـ سبحانه وتعالى ـ، أمّا المعاملات، فشُرع فيها قواعد كلية ونظريات عامة، ولم ينص فيها على الجزئيات، بل ترك لأهل الاجتهاد استنباطها وتطبيقها بوسائل مختلفة؛ حسب المصالح وتغير الظروف.

1. أفتى الإمامان: أبو حنيفة ومالك، بجواز دفع الزكاة إلى الهاشمي (أيْ من هو من نسل الرسول)، مع ورود الحديث بالمنع؛ وذلك لمّا تغيرت الأحوال، واختل نظام بيت المال، وضاع حق الهاشميين فيه. فأفتيا بذلك؛ دفعاً للضرر عنهم، وحفظاً لهم من الفقر.

2. خالف أبو يوسف ومحمد إمامهما أبا حنيفة، في كثير من الأحكام، تبعاً لتغير الأزمنة، كمخالفته في أسلوب الحكم بعدالة الشهود. فمقاييس العدالة والصدق، كانت غالبة، في زمن أبي حنيفة؛ فاكتفى بالعدالة الظاهرة، فيما عدا الحدود والقصاص.  فلما فسد الناس، في زمن صاحبَيْه، لم يكتفيا بذلك، وشرطا التزكية؛ لئلا تضيع حقوق الناس.

3. قال الإمام مالك في من له ماء، وراء أرض دون أرضه، فأراد أن يجري ماءه في أرض جاره: إنه ليس له ذلك. ولم يأخذ بما روي عن عمر، في قضية محمد بن مسلمة، التي أجبره فيها على أن يجري ماءه في أرض جاره؛ بما أنه لا يضره، بل يستفيد منه. وقال الإمام مالك في ذلك: "فسد الزمان، واستحق الناس التهم. فأخاف أن يطول الزمان، وينسى ما كان عليه جري هذا الماء. وقد يدعي جارك عليك به دعوى في أرضك".

وخالف الإمام مالك أبا بكر في خمس قضايا. وخالف عمر في نحو ثلاثين قضية؛ مع أن الرسول قال: )فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ. تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ( (أبو داود: 3991).

4. لمّا كان عمر بن عبدالعزيز والياً على المدينة، كان يحكم للمدعي بدعواه، إذا جاءه بشاهد واحد، وحلف اليمين. فيَعُدّ يمين المدعي قائماً مقام الشاهد الثاني. فلمّا أصبح خليفة، وأقام بالشام، لم يحكم إلاّ بشهادة رجلَيْن، أو رجل وامرأتَيْن. فسُئل في ذلك، فقال: "لقد وجدنا أهل الشام على غير ما عليه أهل المدينة.

5. أجاز الشافعية أخذ نبات الحرم، لعلف البهائم؛ لما يلحق الحجيج من الحرج، لو لم يبح لهم ذلك؛ مع وجود النهي الصريح من الرسول عنه.

6. أجاز الشافعية الأكل من الغنيمة، في دار الحرب؛ مع ورود النهي عن الانتفاع بها، قبل القسمة، مستندين في ذلك إلى الحاجة. ولم يقيدوا هذا الجواز بحالة عدم وجدان غيره معه، حتى يقال إنه من باب الضرورة المتفق على العمل بها؛ بل أطلقوه إطلاقاً.

7. قال العز بن عبدالسلام[2]: "لو عمَّ الحرام في بلدة، بحيث لا يوجد فيها حلال، جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة. ولا يقف تحليل ذلك على الضرورة؛ لأنه لو وقف عليها لأدى إلى ضعف العباد، واستيلاء الكفار على أهل الإسلام؛ ولانقطع الناس عن الحرف والصنائع، والأسباب التي تقوم بمصالح الأنام".

8. أمّا الحنابلة، فقد توسعوا في الأخذ بالمصلحة، وتبديل الأحكام تبعاً لها. قال ابن تيمية: إذا أشكل على السالك حكم شيء، هل هو على الإباحة أو التحريم، فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته. فإن كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته؛ بل يقطع أن الشرع يحرمه، ولا سيما إذا كان مفضياً إلى ما يبغضه الله ورسوله.

ضوابط المصلحة الشرعية

المصلحة ليست دليلاً، في ذاتها، مستقلاً عن الأدلة الشرعية، كالكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس؛ حتى يصح بناء الجزئية عليها وحدها؛ وإنما هي معنى كلي، استخلص من مجموع جزئيات الأحكام المأخوذة من أدلتها الشرعية، أي أنه وجد، من تتبع الأحكام الجزئية المختلفة، قدر كلي مشترك بينها، وهو القصد إلى مراعاة مصالح العباد، في دنياهم وآخرتهم.

وكان لا بدّ لمراعاة المصلحة في التشريع من تقيدها بضوابط، تحدد معناها الكلي، من جهة؛ وتربطها بالأدلة التفصيلية للأحكام، من جهة أخرى، حتى يتم التطابق بذلك بين الكلي وجزئياته.

ومن أهم ضوابط المصلحة، التي يراعيها الشرع الإسلامي:

1. اندراجها في مقاصد الشارع، وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينات.(انظر ملحق الضروريات والحاجيات والتحسينات).

2. عدم معارضة المصلحة لكتاب الله.

3. عدم معارضة المصلحة للسُّنَّة المشرفة.

4. عدم معارضة المصلحة للقياس.

5. عدم تفويتها مصلحة أهم منها، أو مساوية لها. وميزان تفاوت المصالح في الأهمية، يكون كالآتي:

أولاً: بالنظر إلى قيمتها، من حيث ذاتها، وترتيبها في الأهمية.

ثانياً: بالنظر إليها، من حيث مقدار شمولها.

ثالثاً: بالنظر إليها، من حيث تأكد نتائجها أو عدمه.

العُرف وأثره في الفَتْوَى

كثيرمن الأحكام الشرعية مبنية على الأعراف والعادات. وينبغي للفقيه أن يحمل نص الشارع على العرف السائد. (انظر ملحق العُرف وأثره في الفَتْوَى).

التيسير في الفَتْوَى

ليس المقصود بالتيسير في الفَتْوَى إباحة المحرمات، في حالات الضرورة، أو الإفتاء بترك الواجب؛ لأن ذلك يُعد مروقاً عن التكليف الشرعي، بل خروجاً عن الدِّين؛ إنما المقصود بالتيسير، أن يفتي المستفتى:

ـ إمّا في دائرة أعمال التطوع.

ـ أو في الأحكام التي فيها تخيير، بأمر الشارع، بما يلائم حال المستفتي.

ـ أو ينهاه عن الأمور، التي تشق عليه، فوق طاقته، حتى لا يمل، أو لا يعجز.

ومن أمثلة فَتَاوَى التيسير

1. إذا رأى المُفْتِي مخرجاً لمشكلة، وقع فيها السائل، بما لا يتجاوز حدود الشرع، أفتاه بالعمل به. فقد ورد أن رسول الله )اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لا، وَاللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاثَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لا تَفْعَلْ. بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا( (البخاري: 2050)، ( الجنيب: من أجود أنواع تمر المدينة. والْجَمْعَ: نوع رديء). وهكذا وجد الرسول لعامله مخرجاً؛ فيسر عليه أمره.

2. عن وكيع بن الجراح[3]، فقيه العراق، وأستاذ مالك والشافعي، أنه قال: كان لنا جار من خيار الناس، وكان من حُفّاظ الحديث، فوقع بينه وبين امرأته شيء، وكان بها معجباً. فقال لها: أنت طالق ثلاثاً إن سألتيني الطلاق الليلة. فقالت المرأة: عبيدي أحرار، وكل مالي صدقة، إن لم أسألك الطلاق هذه الليلة. يقول وكيع: فجاءني الرجل والمرأة في الليلة. فقالت المرأة: إني بليت بكذا. وقال الرجل: إني بليت بكذا. فقلت ما عندي في هذا شيء، ولكن نصير إلى الشيخ أبي حنيفة، وإني أرجو أن يكون عنده لنا فرج، وكان الرجل المبتلى يكثر الوقيعة في أبي حنيفة، وقد بلغه ذلك عنه. فقال الرجل: إني استحي منه. فقلت: امض بنا إليه، فأبى، فمضينا إلى ابن أبي ليلى، فلم يجبنا، ثم مضينا إلى الإمام أبي حنيفة فدخلنا عليه، وقصصنا عليه القصة، بعد أن أخبرناه بذهابنا إلى ابن أبي ليلى. فسال الرجل: كيف حلف؟ وسأل المرأة: كيف حلفت؟ ثم قال: أنتما تريدان الخلاص من الله تعالى، في إيمانكما، ولا تحبان الفرقة. فقالا: نعم. قال أبو حنيفة: سليه أن يطلقك. فقالت المرأة للرّجل: طلقني. ثم قال للرجل: قل لها أنت طالق إن شئت ثلاثاً. فقال لها الرجل: أنت طالق إن شئت ثلاثاً. فقالت: لا أشاء. فقال أبو حنيفة: قد بررتما وخرجتما من طلبة الله لكما.

3. ذكر الخطيب البغدادي أن رجلاً دخل عليه اللصوص، فأخذوا متاعه، واستحلفوه بالطلاق ثلاثاً أن لا يخبر أحداً. قال: فأصبح الرجل، وهو يرى متاعه يباع، من قبل اللصوص، ولا يقدر أن يتكلم من أجل يمينه. فجاء يشاور أبا حنيفة: فقال له الإمام: أحضر لي إمام حيك والمؤذن والمسؤولين فأحضرهم. فقال لهم أبو حنيفة: هل تحبون أن يرد الله على هذا متاعه؟ قالوا نعم. قال : فاجمعوا كل داعر، وكل متهم، فادخلوهم في دار، أو في مسجد، ثم أخرجوهم واحداً واحداً، وقولوا له: هل هذا لصك؟ فإن كان ليس بلصه قال: لا. وإن كان لصه فليسكت، فإذا سكت اقبضوا عليه. ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة، فرد الله عليه جميع ما سُرق منه، ويسر القبض على اللصوص.

4. وقد يستدعي الموقف تهوين الأمر وتيسيره، والتقليل من شأنه على المستفتين للمصلحة، كإنسان عنده وسوسة في طهارته أو صلواته، فيخبر بيسر الدِّين، ويتلى عليه نصوص التخفيف، ورفع الحرج عن الأمة.

5. والأمر نفسه يكون بالنسبة لإنسان تاب وندم ورجع عن المعاصي، فكأنه قنط لاستعظام ذنوبه، وتكون وظيفة المُفْتِي هنا أن يوسع عليه بنصوص الرحمة وقبول التوبة، وذلك مثل قوله تعالى: )وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ( (آل عمران: 133 ـ 135).

أو يقرأ عليه قول المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: )لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ(. (مسلم: 4932).

الخلاصة

إن حاجات الناس تتطور، ومصالحها تتغير، من وقت إلى آخر، ومن حال إلى أخرى. وهذا جعل كثيراً من أهل العلم يقرون أشياء، كانوا ينكرونها، من قبل. ومثال ذلك، في العصر الحديث:

منذ سنين، نشب جدال شديد في شأن مقام إبراهيم، في صحن المسجد الحرام، وإمكانية نقله من مكانه؛ لأنه يعوق الطائفين، أيام الزحام، في رمضان والحج. وهل يجوز هذا النقل، أم أنه أمر تعبدي لا يجوز التفكير في غيره؟ وكُتبت بحوث ومقالات، وأُلِّفت رسائل وكتيبات، في الموضوع، ما بين أخذ ورد، وتجويز ومنع. وكان صوت المانعين، من أي تغيير فيه، أو مساس به، أول الأمر، أجهر وأقوى، حتى قضت الأوضاع العملية، والضرورات الواقعية، لانتصار الرأي المعتدل.(انظر ملحق فَتْوَى في شأن إزالة بناء على مقام إبراهيم عليه السلام)

من روح التشريع الإسلامي مراعاة المصلحة. ولذا، فإن الشارع رتب عللاً من الأحكام؛ ليرشد إلى أن الحكم يتبع علته، ويتغير بتغيرها في الكثير الغالب، ولا سيما في مسائل المعاملات، التي كثيراً ما تتأثر باختلاف المكان وتغير الزمان. ومن ثَمَّ، توسع الشارع في بيان علل الأحكام؛ ليدور الحكم مع علته، وجوداً أو عدماً. ومن المعلوم أنه، عند تضارب المصالح، تقدم المصلحة العامة، على المصلحة الخاصة؛ دفعاً للضرر الأكبر بالضرر الأدنى.

ومن أجل مراعاة المصالح، لم يتناول القرآن الكريم، بالتفصيل، أحكام المعاملات، المالية والجنائية والدولية والقضائية والدستورية، وما شابه ذلك، مما يتغير بتغير البيئة، ويتأثر باختلاف النظُم. وما كان سكوت الشارع عن هذا نسياناً منه؛ إذ )لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى( (طه: 52)؛ وإنما كان رأفة بالناس؛ حتى يكون ولاة الأمر والمجتهدون، في كل عصر، في سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها، حسب ما يحقق مصالح الناس، في حدود الأسس العامة للتشريع الإسلامي، من غير اصطدام بنص قطعي فيها. قال الله تعالى: )وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ( (الحج: 78). وقال: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ( (البقرة: 185). و"قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَيُّ الأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: )الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ( (مسند أحمد: 2003).

 



[1] هو قاضى القضاة شهاب الدين، أبو الفضل أحمد بن على بن أحمد، العسقلاني الأصل، ثم المصري المولد والنشأة. عُرف بابن حجر، وهو لقب لبعض آبائه. ولد بالفسطاط فى 12 شعبان سنة 773 هـ / 1362م، وتوفي سنة 852هـ / 1361م، وقد نشأ يتيماً فكفله وصي والده زكي الدين الخرنوبي، كبير التجار بمصر. وعندما حج هذا الوصي سنة 784هـ، اصطحب ابن حجر معه؛ فمكنه ذلك من دراسة الحديث بمكة المكرمة وهو فى سن الثانية عشرة من عمره. ولمّا عاد إلى القاهرة، درس على يد جماعة كبيرة من علماء عصره، وفى مقدمتهم شمس الدين القطان. وقد درس ابن حجر الفقه واللغة وعلوم القرآن وشغف بالحديث. ولقد قام ابن حجر العسقلاني بعدة رحلات دراسية بالبلاد المصرية والشامية والحجازية واليمن. وانكب على دراسة الحديث وتصنيفه وبلغت مصنفاته فى الحديث والفقه والتفسير وعلوم القرآن نحو مائة وخمسين مصنفاً، من أشهرها "فتح الباري بشرح صحيح البخاري". راجع: الجواهر والدرر في ترجمة الحافظ ابن حجر للسخاوي، طبع في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة،  ثلاث مجلدات ، 1970.

[2] هو أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن مهذّب السُلمي مغربي الأصل، . وُلد في دمشق عام 578 هـ، وعاش فيها وبرز في الدعوة والفقه ،توفي سنة660هـ، في مصر. قصد العز العلماء، وجلس في حلقاتهم. وجمع العز في تحصيله بين العلوم الشرعية والعلوم العربية. وكان أكثر تحصيله للعلم في دمشق، ولكنه ارتحل أيضاً إلى بغداد للازدياد من العلم. ترك الشيخ تراثاً علمياً ضخماً في علوم التفسير والحديث والسيرة والعقيدة والفقه وأصول الفقه والزهد وتلاميذ جهابذة، وحارب البدعة وأحيا السنة. لمّا جاء العز إلى مصر،  سنة 639هـ. رحب به الملك الصالح نجم الدين، فولاّه الخطابة والقضاء، ولكن فتاويه لم ترضي المماليك، فشكوه إلى الملك الصالح، الذي لم تعجبه فتوى الشيخ العز، فذهب اليه يسأله أن يعدل من فتواه، فطلب منه الشيخ "ألاّ يتدخل في القضاء فليس هذا للسلطان، فإن شاء أن يتدخل فالشيخ يقيل نفسه". فاجتمع أمراء الدولة، وأرسلوا اليه، فقال الشيخ: "نعقد لكم مجلساً وننادي عليكم (بالبيع) لبيت مال المسلمين". واشتهر العز بعدها بأنه بائع الملوك. عايش العز دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين في الشام ومصر، وكانت دولة قوية، ولكن في آخر عصرها تنافس أمراؤها وتقاتلوا على المُلك، حتى لجأ بعضهم إلى التحالف مع الصليبيين من أجل أن يتفرغ لقتال إخوانه وبني عمومته، ثم كان في آخر دولتهم أن حكمتهم امرأة هي شجر الدر، في سابقة في تاريخ الإسلام. وخرجت المظاهرات الغاضبة، بقيادة العز بن عبد السلام، ما اضطر شجرة الدر بعدها للتنحي بعد 80 يوماً قضتها في الحكم. وبعد وصول قطز لسدة حكم مصر، وظهور خطر التتار ووصول أخبار فظائعهم ورسلهم المهددين، وللاستعداد لملاقاة التتار الزاحفين، أمر قطز بجمع الأموال للإعداد للحرب، ووقف العلماء وعلى رأسهم العز بن عبد السلام أمام الأمراء وقادة الجند، فقرروا ألاّ يؤخذ من الناس شيئا إلاّ إذا كان بيت المال فارغاً، وبعدما يخرج الأمراء والتجار وأغنياء الناس من أموالهم وذهبهم حتى يتساوى الجميع، فنزل قطز على حكم العلماء. من ألقابه: سلطان العلماء، وبائع الملوك والأمراء. راجع: علي الصلابي، "سلسلة فقهاء النهوض: الشيخ عز الدين بن عبدالسلام .. سلطان العلماء وبائع الأمراء". ط1، 1987، طرابلس، ليبيا؛ وعبد الرحمن الشرقاوي. "أئمة الفقه التسعة"، كتاب اليوم، أخبار اليوم: 1983.

[3] وكيع ابن الجراح بن مليح بن عدي بن فرس بن جمجمة بن سفيان بن الحارث بن عمرو بن عبيد بن رؤاس، الإمام الحافظ محدث العراق أبو سفيان الرؤاسي الكوفي، أحد الأعلام ولد سنة 129هـ, وسمع من أكابر علماء عصره، وكان والده ناظراً على بيت المال، بالكوفة، وله هيبة وجلالة. ورث وكيع من أمه مئة ألف درهم. قال يحيى بن يمان لما مات سفيان الثوري جلس وكيع موضعه. وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحداً أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع. راجع: سير أعلام النبلاء، 9/141.