إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الفتوى









المعنى الشرعي

الفصل الرابع

شروط المُفْتِي وآدابه

يُشترط في المُفْتِي شروط كثيرة، أهمها:

1. الإسلام

وهذا الشرط مجمع عليه؛ بل هو بدهي فلا يمكن استفتاء الكافر؛ إذ إنه يبين حكم الله، وينوب عن رسوله، ويتلقى الناس ما يقوله على أنه مُشَرّع عن الله تعالى.

2. التكليف

أي يكون بالغاً، عاقلاً. وهذا الشرط مما أُجمع عليه، كذلك؛ فإن الصبي، لا حكم لقوله في مثل هذا، والمجنون مرفوع عنه القلم.

3. العلم والاجتهاد

وهما شرطان أساسيان لتقلد هذا المنصب، إذ إنه مُبَلِّغ عن الله أحكامه، ولا يليق أن يكون جاهلاً بأحكام الله. قال الإمام أحمد: ينبغي للرجل، إذا حمل نفسه على الفتيا، أن يكون عالماً بوجوه القرآن، عالماً بالأسانيد الصحيحة، عالماً بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف؛ لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها. وفي رواية: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدم؛ وإلاّ فلا يفتي.

وقال رجل يسأل أحمد: إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث، يكون فقيها؟ قال: لا، قال: فمائتي ألف؟ قال: لا. قال فثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قال: فأربعمائة ألف ؟ قال لا. قال: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو". (وقد حُمل قول أحمد على الاحتياط والتغليظ في الفَتْوَى، وأن مراد الإمام، في ذلك، وصف أكمل الفقهاء. فقد قال: الأصول التي يدور عليها العلم، عن النبي، ينبغي أن تكون ألفاً ومائتين. ويرى أغلب العلماء أن الفقيه لا بد أن يعرف الأحاديث المتعلقة بالأحكام، ويعرف مواضعها، في كتب السنة الصحيحة).

وقال الخطيب البغدادي في شروط من يصلح للفَتْوَى: يكون المُفْتِي عالماً بالأحكام الشرعية. وعلمه بها، يشتمل على معرفته بأصولها وفروعها.

عن الشافعي ـ يرحمه الله ـ: "لا يحلّ لأحد يفتي في دين الله إلاّ رجلاً عارفاً بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أنزل. ثم يكون، بعد ذلك، بصيراً بحديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وبالناسخ والمنسوخ منه، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر، وما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هذا كهذا، فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي[1].

ولا يشترط أن يحفظ آيات الأحكام وأحاديثها، عن ظهر قلب. بل يكتفي بمعرفة مواضعها. كما يشترط أن يكون قادراً على التمييز بين صحيح الحديث وحسنه وضعيفه. كذلك يشترط فيه معرفة لسان العرب، من لغة ونحو؛ إلاّ أنه لا يشترط إتقان اللغة، إلى درجة الخليل بن أحمد وسيبويه؛ وإنما ينبغي معرفة القدر، الذي يفهم به خطاب العرب، وعاداتهم في الاستعمال، إلى حدٍّ يميز به بين صريح الكلام، وكنايته، ومجمله ومبينه، وحقيقته ومجازه، أيْ يتقنها إلى درجة كبيرة ويتمكن منها.

4. العدالة في الأقوال والأفعال

وذلك بأن يكون مستقيماً في أحواله، محافظاً على مروءته، صادقاً في ما يقوله، موثوقاً به. والعدالة، في الشرع: هي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً؛ حتى تحصل ثقة الناس بصدقه. ويتحقق له ذلك باجتناب الكبائر، والترفع عن الصغائر، التي يدل فعلها على نقص في الدِّين، إضافة إلى عدم ارتكاب ما يخل بالمروءة: كالأكل في الأسواق، [كان ذلك قديماً، والآن ربما احتاج أن يأكل في سيارته أو حال ركوب الطائرة] والبول في الطرقات، ونحو ذلك. ومن المعلوم أن ما يُعَدّ إخلالاً بالمروءة يختلف باختلاف عادات أهل البلاد؛ فإن ما يعد إخلالاً بالمروءة، في بلد ما، قد يكون أمراً مألوفاً، يفعله أغلب الناس، في بلد آخر. ومرد ذلك إلى الأعراف السائدة. وبالجملة، إن كان الأغلب على حال الرجل، الطاعة لله، والمروءة في الأفعال، قبلت شهادته وفتواه. وإن كان الأغلب خلاف المروءة، ردت عليه.

وباشتراط العدالة في المُفْتِي، فإن فَتْوَى الفاسق غير مقبولة؛ لأنه غير أمين على فتواه، ولو كان مجتهداً، عند أغلب العلماء. ولكن إذ لم يوجد عالم عدل، أو إن اقتصر فسقه على بعض الصغائر، أو بعض أفعال تخل بالمروءة؛ فإنه تقبل فتواه. لأنه لا يستلزم بالضرورة لمن يرتكب هذا، أن يكذب في فتواه. أمّا إذا كان فسقه بسبب ارتكاب الكبائر، فينبغي عدم توليته على الإطلاق؛ لأن من يجتريء على فعل الكبائر، يجتريء على الكذب في الفَتْوَى.

آداب المُفْتِي

تزين المُفْتِي جملة آداب، منها:

1. الاستقامة

لا بدّ للمُفْتِي من أشراط وسمات، تحفز الناس إلى الوثوق بأقواله، ولا سيما تلك التي تتعلق بأحكام الدِّين. وهم لا يتلقون ذلك، إلاّ ممن آنسوا فيه مكارم الأخلاق، وسوية السيرة، وموافقة عمله لقوله، والتزامه ما يعتقد.

2. الورع والعفة والحرص على استطابة المأكل

ينبغي على المُفْتِي أن يجعل نصوص الوعيد والتهديد لمن خالف أوامر الله، بين عينيه. ويعفّ عمّا في أيدي الناس، وعمّا يُعَدّ في عرفهم من صفات الدناءة والضعة. ويحرص أشد الحرص على أن يكون مكسبه حلالاً، ومعاملته مع الناس قائمة، في أصولها وفروعها، على منهج الله، وفي حدود ما شرعه؛ وأن يكون مأكله حلالاً خالصاً. وثمة أمور من الورع، تلزم المُفْتِي، وهي:

أ.  ألاّ يكون هدفه الشهرة وإرضاء الناس، كما هو الحال في تلك الأيام (انظر ملحق أصبحت الفَتْوَى مجالاً فسيحاً يتسابق فيه من يريد الشهرة وإرضاء الناس). والمقصود أن ينوي بعمله الإخلاص ورضاء الله، أي أن يكون عاملاً بعلمه، ولا يناقض عمله كلامه، قال ـ سبحانه وتعالى ـ: )أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ( (البقرة: 44). وقال: )كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ( (الصف: 3). ويستحضر في نفسه خطر الإفتاء، ويفتي كذلك بما يحب أن يُفتى له؛ فيحب لأخيه ما يحب لنفسه.

ب. إن سأله بعض الناس عن معصية، كانوا يفعلونها، فعليه أن يتلطف، وأن لا يفضح أسرارهم؛فإن الله حيي ستير.

ج. وليس للمُفْتِي أن يتكبر على المستفتي؛ بل عليه أن يلين له؛ أسوة برسول الله. وعليه ألاّ يتأذى من أي مستفت، بل يكون معه طليق الوجه، يعامله بالحسنى، ويسمع له، حتى ينتهي من الكلام؛ ولا يتسرع في الجواب والفَتْوَى، قبل ذلك.

د.  يستحب أن يقرأ المسألة على من هم أهل لذلك، ويشاورهم، ويباحثهم، برفق وإنصاف، وإن كانوا دونه أو تلامذته؛ رجاء ظهور ما قد يخفى عليه؛ إلاّ أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه، أو يؤثر السائل كتمانه، أو يكون في إشاعته مفسدة.

قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ( (آل عمران: 159). وشاور النبي، وأمر بالمشاورة. وكانت الصحابة تشاور في الفتاوي والأحكام. وكانت المشاورة ديدن عمر بن الخطاب. وقد ثبت أنه كان يشاور علياً وابن عباس خاصة. قال سعيد بن جبير[2]: كنت عند ابن عباس، فسُئل عن مسألة، فالتفت إليَّ فيها، فقال: ما تقول، يا سعيد بن جبير؟ فقلت: أنت ابن عباس! وإنما جئت أقتبس منك. فقال: إذا كان لك جليس فسله؛ فإنما هو فهْم، يؤتيه الله من يشاء. وقال عبدالله بن المعتز[3]: مَن أكثر المشورة، لم يعدم عند الصواب مادحاً، وعند الخطأ عاذراً.

هـ. إذا رأى المُفْتِي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ عليه، جاز ذلك؛ زجراً له ولأمثاله.

و. ينبغي للمُفْتِي أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم؛ حذراً مما يصورون فيه أسئلتهم؛ لئلا يوقعوه في المكروه. ومن ثم، له الامتناع عن إجابة المستفتي، في أحوال خاصة، منها:

(1) إذا خفي على المُفْتِي الجواب. فقد قال الله ـ تعالى ـ: )وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ( (يوسف: 76). فإذا سُئل المُفْتِي عن حكم نازلة، فأشكل عليه؛ وهناك من هو عارف به، لزمه أن يرشد السائل إليه، ويدل عليه. كما ورد عن شريح بن هانئ[4]، قال: سألت عائشة عن المسح على الخفَّين، فقالت: سَلْ علياً، فهو أعلم مني بهذا، وقد كان يسافر مع رسول الله. قال: فسألت علياً، فقال: قال رسول الله: )ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ( (مسلم: 414).

فإن لم يكن هناك من يُستفتى غيره، لزمه الإمساك عنه، وترك الجواب فيما لم يتضح له؛ فإن الله ـ تعالى ـ يقول: )وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً( (الإسراء: 36).

(2) للمُفْتِي أن يمتنع عن الإجابة إن تَبَيَّن له سوء قصد المُسْـتَفْتِي، من خلال تحويره للسؤال، وزيادته فيه أو نقصانه؛ لتأتي الفَتْوَى موافقة لهواه، فيستند إليها، أمام الناس؛ ومن ذلك من يحاول إلباس الربا ثوب البيع المباح، أو القرض المباح. وإذا كان لا بدّ للمُفْتِي من الجواب، فليقل هذا هو الجواب، إن كان الأمر كما تقول.

(3) للمُفْتِي أن يغلظ القول الشديد إن كان المُسْـتَفْتِي يمارس معصية ظاهرة، أكبر مما يسأل عنه وأشد خطراً. كأن يكون كافراً معانداً، أو منافقاً فاجراً، ثم يسأل عن مسائل فرعية. فقد ورد عن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إنه قال لعراقي، سأل عن نجاسة دم البعوض: قاتلكم الله، يا أهل العراق، تقتلون ابن بنت رسول الله (أي الحسين بن علي)، ثم تسألون عن دم البعوض!.

(4) إن خاف المُفْتِي عاقبة الفتيا؛ ورأى أن شرها يفوق خيرها، أمسك عنها؛ إذ لا يصح أن تزال المفسدة بأخرى أعظم منها. وقد ترك النبي إعادة بنيان الكعبة على قواعد إبراهيم، لما كان أهل مكة حدثاء عهد بالجاهلية. كذلك يمسك المُفْتِي، إذا رأى أن عقل السائل، لا يحتمل الجواب؛ لبعده الشاسع عما هو فيه، فيترك جوابه، لئلا يجحد به. وقد أخر الله تبارك وتعالى بيان كثير من الأحكام، إلى أن تهيأت النفوس لقبولها والعمل بها؛ ومن أجل ذلك، نزل القرآن مفرقاً بحسب الحوادث، ولو أنه أمرهم من أول الأمر بالصلاة والصيام والزكاة والحج والامتناع عن الخمر والربا وغير ذلك، لما أذعنوا له.

ومن الأدلة على هذا الشرط، قول النبي لمعاذ بن جبل: )مَنْ لَقِيَ اللَّهَ، لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ قَالَ: أَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لا، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا( (البخاري:126). وقال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون. أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله!".

وليس للمُفْتِي الفَتْوَى، في حال غضب شديد، أو جوع مفرط، أو هم مقلق، أو خوف مزعج، أو نعاس، أو شغل قلب، أو مدافعة الأخبثَين؛ بل متى أحس من نفسه شيئاً من ذلك، يخرجه عن حال اعتداله وكمال تثبته، أمسك عن الفَتْوَى؛ فإن أفتى، في هذه الحالة، بالصواب، صحت فتياه.

ز. عدول المُفْتِي عن السؤال إلى ما هو أنفع منه.

للمُفْتِي أن يعدل عن جواب المستفتي عما سأله عنه، إلى ما هو أنفع له منه، لا سيما إذا تضمن ذلك  بيان ما سأل عنه؛ وذلك من كمال علم المُفْتِي وفقهه ونصحه. وقد قال ـ تعالى ـ: )يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ( (البقرة: 215). فسألوه عن المال المنفَق، فأجابهم بذكر وجوه صرفه؛ إذ هو أهم مما سألوه عنه، ونبههم عليه بالسياق؛ مع ذكره لهم، في موضع آخر: )قُلِ الْعَفْوَ( (البقرة: 219)؛ وهو ما سهل عليهم إنفاقه، ولا يضرهم إخراجه.

وقد سأل بعض الصحابة النبي، أسئلة لا ثمرة لها، فغضب غضباً شديداً. مثال ذلك سؤال رجل يسمى ابن جذامة: من أبي؟ وهو سؤال لا نفع له قط؛ لأنه إن كان له أب، غير الذي يُنسب إليه بين الناس، لم يكسب من ذلك، إلاّ فضح أمه، والإزراء بنفسه.

ولما تخلّف المسلمون، حضارياً وفكرياً، أكثروا من الأسئلة التي لا يصلح بها دين، ولا ترتقي بها دنيا، ولا يزكو عليها فرد، ولا تنهض بها جماعة. وشغل عوام المسلمين بمسائل وتفصيلات، لم تخطر ببال أحد من سلف الأمة. ومنها: ما لون كلب أهل الكهف؟ وهل كان ذكراً أم أنثى، وأين كانوا ومتى كانوا؟ مع أن الله تعالى لم ينص على شيء من ذلك، ولو علم فيه خيراً لنا لذكره. بل عرض القرآن لاختلاف أهل الكتاب في عددهم، ما بين ثلاثة وخمسة وسبعة، ثم عقب على ذلك، مخاطباً الرسول، بقوله: )قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا( ( الكهف: 22). فلم يصرح الله ـ سبحانه وتعالى ـ بعددهم وهو أعلم به، ونهى الرسول أن يتعمق في الجدال معهم؛ تعليماً للأمة ألا تنشغل بمثل هذا الجدال غير المثمر. ومن أمثلة ذلك، من يتحرّى اللغة، التي يحاسب بها الناس في القبر؟ السريانية هي أم العربية؟ وما اسم أخت موسى ـ عليه السلام ـ التي ذكرها الله في القرآن؟ أو ما اسم فرعون؟ أو هل أبوا النبي في الجنة أم في النار؟ وكان الفقيه عامر الشعبي، يستخدم النكتة اللاذعة في الرد على هذا اللون من الأسئلة الغريبة. سأله أحدهم عن زوجة إبليس! فقال: ذاك عرس لم أشهده.. وقد يمتنع المُفْتِي عن مثل هذا الإفتاء، إذا وجد أن لفتواه مضاعفات، أو أن المستفتي يريد استغلال هذه الفَتْوَى؛ قصد الإضرار بالغير.

ح. يفتي المُفْتِي كلاً بما تقتضيه حاله؛ فيفتي الفاسق، الذي يريد التوبة، بعظيم رحمة الله، ومغفرته. ويشدد على المستفتي، الذي يريد الشرّ؛ ردعاً له. أفتى ابن عباس، عندما سأله رجل عن توبة القاتل، بقوله: لا توبة له. وسأله آخر، فقال: له توبة. فلمّا استفسر منه جلساؤه، قال: أمّا الأول، فرأيت في عينيه العزم على القتل. وأمّا الثاني، فجاء نادماً، بعد أن قتل، فلم أقنطه من رحمة الله. وكان أهل العلم، إذا سُئلوا عن القاتل، قالوا: لا توبة له. وإذا ابتلى رجل بالقتل، قالوا له: تُبْ.

ط. لا يجوز للمُفْتِي تتبع الحيل، ولا الرخص لمن أراد نفعه. وإن قصد حيلة جائزة، لا شبهة فيها، ولا مفسدة، ليتخلص المستفتي بها من مشكلة، جاز. والمقصود أنه إذا رأى للمستفتي طريقاً، يرشده إليه؛ كمن حلف لا ينفق على زوجته، شهراً، يقول: تعطيها من صداقها، أو على سبيل القرض، ثم تبرئها. وروي أن رجلاً سأل أبا حنيفة، أنه حلف أن يجامع امرأته، في شهر رمضان، ولا يكفِّر عن يمينه، ولا يقضي يوماً مكان اليوم، الذي جامعها فيه. فأجابه أبو حنيفة: سافر بها (والمعلوم أن المسافر يجوز له الفطر، في رمضان، أيام سفره). وهذا من باب الحيل النافعة، التي يرضى عنها الله. أمّا الحيل التي ينجم عنها الالتفاف على الدِّين؛ لتحقيق مصلحة زائفة، أو ارضاءً للهوى، فلا تجوز بحال. ( انظر ملحق الحيل في الدِّين).

ي. ليحذر المُفْتِي أن يميل بفتواه، إلى المستفتي، أو خصمه، قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: )فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا( (النساء: 135).

ك. إذا سُئل المُفْتِي عن مسألة في تفسير القرآن، فإن كانت تتعلق بالأحكام، كالصلاة الوسطى، والقُرء (أي الحيض، أو الطهر منه)، ومن بيده عقدة النكاح، أجاب عنها. وإن لم تتعلق بالأحكام، كالسؤال عن المتشابهات، وعن المسائل، التي وردت من دون تفسير، ووجب الإيمان بها كما هي ـ امتنع عن الجواب، أو زجر المستفتي، مثلما حدث مع الإمام مالك، حين سأله رجل عن قوله ـ تعالى ـ: )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( (طه: 5)، كيف استوى؟ فتغير وجه الإمام مالك، وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

ل. ينبغي للمُفْتِي أن يحسن ملبسه، وفق التوجيهات الإسلامية، من مراعاة النظافة وستر العورة، واجتناب لبس الحرير والذهب، والامتناع عن حضور مجالس السوء، وسماع الأغاني والموسيقى والملاهي. وإنما كان جمال المظهر، وحسن الزي، على الطريقة، التي تلائم الوضع الشرعي مطلوباً؛ لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ولأن الخلق مجبولون على تعظيم الصور الظاهرة. والمُفْتِي مطلوب منه أن يعمل ما يجعله عظيماً في قلوب العامة؛ حتى يقتدوا به، ويستنيروا بأقواله. ولهذا، كان اتصافه بهذا الأمر قربة إلى الله، ينال بها الثواب، حيث يقصد بذلك التوسل إلى تنفيذ الحق، وهداية الخلق. ولهذا، قال الفاروق: أحب إلي أن أنظر القارئ أبيض الثياب؛ أي ليعظم في نفوس الناس، فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق.

ويدخل في هذا الأمر اتصافه بالسكينة والوقار، وظهوره بمظهر الاحتشام والأدب، فإن ذلك يرغب المستمع في قبول ما يقوله؛ فيتحقق قصد المُفْتِي بوصول القول الحق إلى العامة وعملهم به.

م. شعور المُفْتِي بأنه مفتقر إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ في إلهامه الصواب. وكان ابن تيمية كثير الدعاء، عند الإفتاء؛ وإن أشكلت عليه مسألة، يقول. "يا معلم إبراهيم، علمني".

يستحب للمُفْتِي أن يبدأ دعاءه بالاستعاذة، ثم يتلو: )سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( (البقرة: 32)، وآية )فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ( (الأنبياء: 79)، )رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي( (طه: 25 ـ 28). ويقول: ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم. سبحانك اللهم لا تنسني ولا تُنسني، الحمد لله أفضل الحمد، اللهم صل على محمد وعلى آله وسائر النبيين وسلم، اللهم وفقني واهدني وسددني، واجمع لي بين الصواب والثواب، وأعذني من الخطأ والحرمان آمين.

ويستحب أن يأتي بذلك، عند كل فَتْوَى يفتيها، إن تيسر، وإلاّ فعند أول فَتْوَى يفتيها في يومه، مضيفاً إلى ذلك قراءة سورة الفاتحة وآية الكرسي وما تيسر.

ن. التريث في الفَتْوَى، عندما يشتمل لفظ المستفتي على بعض الملابسات، التي تجعل المُفْتِي يغلب على ظنه أن صيغة السؤال، لا تعبر عن الواقع تماماً؛ كأن يكون المستفتي عامياً، لا يدري مدلول اللفظ، فقد يطلق اللفظ الصريح على غير مدلوله. فينبغي للمُفْتِي التريث حتى يستجلي السؤال. وربما يمنع الخجل والحياء المستفتي من تعبيره بلفظه عن مقصده، فيساعده المُفْتِي، ويفتيه بهدوء ووضوح وتأنٍّ؛ حتى يفهم المستفتي جيداً.

س. ينبغي للمُفْتِي أن يرشد السائل إلى أبواب الحلال، إن كان يسأل عمّا هو حرام؛ فإن الإسلام لم يحرّم شيئاً، إلاّ وجعل ما يقابله من حلال. فإن النبي لما سأله عبدالمطلب بن ربيعة، والفضل ابن عباس، أن يبعثهما في جباية الزكاة؛ ليصيبا ما يتزوجان به، منعهما من ذلك، وأمر عامله على الخمس (أي الجزء من الغنائم، المخصص لله ورسوله، والذي يُنفق في المصالح العامة للمسلمين)، أن يعطيهما ما ينكحان به؛ فمنعهما من الطريق المحرم، وفتح لهما الطريق المباح. وهذا اقتداء منه بربه ـ تبارك وتعالى ـ فإن العبد يسأله الحاجة، فيمنعه إياها، ويعطيه ما هو أصلح له، وأنفع منها، وهذا غاية الكرم والحكمة.

وإذا أفتى المُفْتِي للسائل بشيء، ينبغي له أن ينبهه على ما قد يذهب إليه الوهم، من خلاف الصواب؛ وهذا باب لطيف من أبواب العلم والنصح والإرشاد. ومثال هذا قول الصادق الأمين: )أَلا لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلا ذُو عَهْدٍ بِعَهْدِهِ. مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا، فَعَلَى نَفْسِهِ، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ( (النسائي: 4653). وقد أتبع الجملة الأولى بالثانية؛ دفعاً لتوهم إهدار دماء الكفار مطلقاً، وإن كانوا في عهدهم. فإنه لما قال: )لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ(، فربما ذهب الوهم إلى أن دماءهم هدر؛ ولهذا، لو قتل أحدهم مسلماً، لم يُقتل به؛ فرفع هذا التوهم بقوله: )وَلا ذُو عَهْدٍ بِعَهْدِهِ(. وكذلك قوله: "لا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلا تُصَلُّوا إِلَيْهَا( (صحيح مسلم:1613). فلمّا كان نهيه عن الجلوس عليها، فيه شيء من التعظيم لها، أعقبه بالنهي عن المبالغة فيه، حتى لا تُجعل قبلة. ومثل هذا في القرآن، كقوله تعالى لنساء نبيه: )يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا( (الأحزاب:32)، فنهاهن عن الخضوع بالقول، فربما ذهب الوهم إلى الإذن في الإغلاظ في القول، فرفع هذا التوهم بقوله )وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا(.

ع. يجب على المُفْتِي أن يكون دقيقاً في الفَتْوَى، فلا يتسرع في تكفير الناس. فإذا سُئل عن   إنسان، تلفظ بما في ظاهره الكفر، يجيب: إن صح هذا بإقراره أو بالبينة، استتابه السلطان، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يتب، فعل به كذا وكذا. وإن تكلم بشيء يحتمل وجوهاً، يكفر ببعضها، دون الآخر، فإنه ينبغي أن يسأل هذا المستفتي، ويحكم عليه بعد ذلك حسب جوابه.

ف. يجب أن يكون المُفْتِي حليماً، واسع الصدر، مقبلاً على المستفتي، حريصاً على تفهيمه، ولا سيما إذا كان بطيء الفهم. ويكون، في ذلك، مقتدياً برسول الله )وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ( (آل عمران: 159)، أيْ أن يكون لين المعاملة، بشوش الوجه، لا يتذمر، ولا يشتكي. ولا يؤنب المستفتي، إن لم يحسن عرض مسألته عليه، بل يترفق، ويعامله معاملة الطبيب للمريض. فكما أن الطبيب يحاول أن يتعرف من مريضه صورة المرض وأعراضه، فينظر أسبابه القريبة والبعيدة؛ ثم يعطي العلاج الناجع، كذلك المُفْتِي، عليه أن يتفهم حال مستفتيه، ويتعرف منه صورة الفَتْوَى. ويجيبه عما يليق به في حالته على الخصوص، فلا يتوقف عند الأمر الكلّي، الصادق على جميع الحالات، من دون اعتبار الخصوصيات؛ بل يأخذ في الحسبان جميع القرائن المحيطة بالحالة المستفتى فيها؛ مراعياً حالة المستفتي ونيته.

فالمُفْتِي لا يُصدر فتواه، مجردةً عن الوقائع وملابساتها وقرائنها؛ بل هو لا يفتي في مسألة ما حتى يسبر غورها، وينظر إلى ملابساتها، وإلى حالة المستفتي ونيته، وكل ما يتعلق بتلك الواقعة. ومثال ذلك: ما لو استفتى شخص جامع زوجته وهي حائض، فإن على المُفْتِي أن لا يجيبه بالحرمة على الإطلاق، بل يسأله عن حاله، وقت ذاك؛ وهل كان عالماً بمحيض زوجته، أم جاهلاً له، عامداً المجامعة في الحيض، أم كان ناسياً. وهل خاف الضرر الشديد على نفسه، إن لم يطأها، أم لا. إذ إن الإجابة على هذا السؤال تتوقف، حلاً وحرمة، على معرفة حال المستفتي وقتها ونيته.

ولا يقف دور المُفْتِي عند هذا، بل عليه أن يتفكر في مآل المستفتي، بعد إعطائه الجواب الوارد في النصوص، فيعالج ما قد يحدث عنده من الاضطراب النفسي. فإذا كان من الممكن أن يقع المستفتي، بسبب الفَتْوَى، في شدة أو يأس، فعلى المُفْتِي أن يذكره بالله تعالى، وبالثواب الذي أعدَّه للصابرين، ويؤكد له أن ذلك قد يكون امتحاناً من الله وابتلاء. كما يذكر له الأحاديث التي تنهى عن اليأس وتأمر بالصبر والاحتساب، تماماً كما يفعل الطبيب مع مريضه، فيأخذ الحيطة للمضاعفات التي قد تترتب على بعض الأدوية الحادة.

وبذلك فإن إجابات المُفْتِين على أسئلة المستفتين في مسألة واحدة، لا يلزم منها أن تكون إجابة واحدة، بل قد تختلف الأحكام ويختلف الأسلوب والعبارات والتوجيهات، تبعاً لاختلاف السائلين ونياتهم وملابسات وقائعهم. ولهذا أمثلة كثيرة من السنة، فقد سُـئل النبي، في أوقات مختلفة، عن أفضل الأعمال، فكان يجيب بأجوبة متنوعة، يرجع تنوعها إلى اختلاف حال سائليها. فمن تلك الأجوبة: أفضل الأعمال: )إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ( (البخاري: 25).

كما سُـئل: )أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا. قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ( (البخاري: 5513). وقال عليه الصلاة والسلام، كذلك: )أَفْضَلُ الأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ( (أبو داود: 3983).

ومن كمال نصح المُفْتِي وعلمه وإرشاده أنه قد يرى، من حال المستفتي، حاجته إلى بيان يتعلق بأمر آخر غير الذي سأل عنه، فلا بأس، عند ذاك، أن يجيب بما هو أكثر من السؤال.

وقد ترجم البخاري لذلك في صحيحه فقال: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه، ثم ذكر حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ما يلبس المحرم؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: )لا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ وَلا السَّرَاوِيلاتِ وَلا الْعَمَائِمَ وَلا الْبَرَانِسَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلانِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ( (البخاري: 1707). فسُـئل رسول الله عمّا يلبس المحرم، فأجاب عمّا لا يلبس، وتضمن ذلك الجواب عمّا يلبس، فإن ما لا يلبس محصور، وما يلبسه غير محصور، فذكر لهم النوعَيْن، وبَيَّن لهم حكم لبس الخف عند عدم وجود النعل. وقد سأله الصحابة كذلك عن الوضوء بماء البحر، فقال لهم: )هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ( (الترمذي: 64).

وكان مقتضى السؤال الجواب بقوله: الطهور ماؤه فقط، ولكنه أضاف الحلّ ميتته، وكأنه رأى أن السائل عن جواز الوضوء بماء البحر يجهل طهوريته، فمن باب أولى أن يجهل حلّ ما مات فيه من حيوان، فبين لهم ما يحتاجون إليه مع أنهم لم يسألوا عنه.

3. قوة الاستنباط، وجودة الملاحظة، ورصانة الفكر

قال الخطيب البغدادي: ينبغي أن يكون المُفْتِي قوي الاستنباط، جيد الملاحظة، رصين الفكر، صحيح الاعتبار، صاحب أناة وتؤدة، ثم استثبات وترك عجلة، بصيراً بما فيه المصلحة، حافظاً لدينه، مشفقاً على أهل ملته، مواظباً على مروءته متورعاً عن الشبهات، مبتعداً عن فاسد التأويلات، صلباً في الحق، دائم الاشتغال بمعادن الفَتْوَى، وطرق الاجتهاد. ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة، ودوام السهر؛ ولا موصوفاً بقلة الضبط، منعوتاً بنقص الفهم، معروفاً بالاختلال، يجيب بما لا يسنح له، ويفتي بما يخفى عليه.

4. تعليل الفَتْوَى

يلجأ المُفْتِي إلى تسويغ فتواه، خاصة إذا كان الدليل موجزاً واضحاً. فإذا سُئل المُفْتِي عن عدة المرأة، التي أيست من المحيض، فليذكر قوله ـ تعالى ـ: )وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ( (الطلاق: 4). ومثل ذلك السؤال عن النكاح بلا ولي، فحَسنٌ أن يقول: قال رسول الله: )لا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ( (أبو داود: 1785). أو عن رجعة المطلقة، بعد الدخول، فيقول: )وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ( (البقرة: 228). أو يذكر قرينة واضحة، تبين الأمر؛ كجواب عمر عن تقبيل الرجل زوجته، وهو صائم، إذ قال: أرأيت لو مضمضت من الماء، وأنت صائم. ولا يلزم المُفْتِي، أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد، ووجه القياس والاستدلال؛ إلاّ أن تتعلق بقضاء قاض، فيومئ إلى طريق الاجتهاد، ويبينه.

وقد يحتاج المُفْتِي في بعض الوقائع إلى أن يشدّد ويبالغ فيقول: وهذا إجماع المسلمين، أو لا أعلم في هذا خلافاً، أو فمن خالف هذا فقد خالف الواجب، وعدل عن الصواب، أو فقد أثم وفسق، أو وعلى ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر. وما أشبه هذه الألفاظ، على حسب ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحال.

5. خشية الله ـ عزّ وجلّ

قيل للإمام الشعبي: يا عالم. قال: إنما العالم من يخشى الله.

وقال عبدالله بن مسعود: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً.

سأل الحسن عن رجل، فقال رجل: يا أبا سعيد. الرجل فقيه. قال: وهل رأيت بعينيك فقيهاً قط؟ إنما الفقيه الذي يخشى الله. وعن مطر الوراق قال: سألت الحسن عن مسألة فقال فيها. فقلت يا أبا سعيد: يأبى عليك الفقهاء ويخالفونك؟ فقال: ثكلتك أمك مطر، وهل رأيت فقيها قط؟ وهل تدري ما الفقيه؟ الفقيه: الورع الزاهد، الذي لا يسخر ممن هو أسفل منه، ولا يهمز من فوقه، ولا يأخذ على علم، علمه الله، حطاماً.

6. الحلم

قال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علمٍ إلى حلمٍ، والناس هنا أربعة أقسام: فخيارهم من أوتي الحلم والعلم، وشرارهم من عدمهما معاً، والثالث من أوتي علماً بلا حلم. والرابع عكسه.

7. الأفضل ألاّ يأخذ المُفْتِي أجراً على فتواه. ويجوز أن يؤجر عليها رزقاً من بيت المال؛ بشرط ألاّ يداهن الحكّام في فتاويه. ثم إن كان له رزق، لم يجز أخذ أجرة أصلاً. وإن لم يكن له رزق، فليس له أخذ أجرة ممن يفتيه، على الأصح، مثله مثل الحاكم. قال الخطيب: لو اتفق أهل البلد فجعلوا له رزقاً من أموالهم، على أن يتفرغ لفتاويهم، جاز. أمّا الهدية، فقيل: له قبولها، بخلاف الحاكم. قال أبو عمرو: ينبغي أن يحرم قبولها، إن كانت رشوة، مثل الحاكم.

قال الخطيب: وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفَتْوَى، في الأحكام، ما يغنيه عن الاحتراف، ويكون ذلك من بيت المال، ثم روى أن عمر بن الخطاب كان يعطي كلَّ رجلٍ، ممن هذه صفته، مائة دينار، في السنة. وكتب الخليفة عمر بن عبدالعزيز إلى واليه، على حمص: "انظر إلى القوم، الذين نصبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المساجد عن طلب الدنيا، فأعط كل رجل منهم مائة دينار؛ يستعينون بها على ما هم عليه، من بيت مال المسلمين. وأسرع به حين يأتيك كتابي هذا، فإن خير الخير أعجله".

8. لا يجوز لمن كانت فتواه نقلاً عن مذهب إمام، إذا اعتمد الكتب، أن يعتمد إلاّ على كتاب موثوق بصحته، وبأنه مذهب ذلك الإمام. فإن وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصفة، لكن هذه النسخة غير معتمدة، فليلجأ إلى نسخ منه متفقة.

9. إذا أفتى في حادثة، ثم حدث مثلها، فإن ذكر الفَتْوَى الأولى ودليلها، جاز ذلك؛ والأفضل تجديد النظر. ومثله القاضي، إذا حكم بالاجتهاد، ثم وقعت المسألة. قال ابن القيم: وسمعت شيخنا، ابن تيمية، يقول: حضرت عقد مجلس عند نائب السلطان، في وقف أفتى فيه قاضي البلد، بجوابَيْن مختلفَيْن، فقرأ جوابه الموافق للحق، فأخرج بعض الحاضرين جوابه الأول، وقال: هذا جوابك ضد هذا، فكيف تكتب جوابَيْن متناقضَيْن في واقعة واحدة؟ فوجم الحاكم. فقلت: هذا من علمه ودينه، أفتى أولاً بشيء، ثم تبين له الصواب، فرجع إليه. ولا يقدح ذلك في علمه، ولا دينه، وكذلك سائر الأئمة فسُرَّ القاضي بذلك، وسُرِّي عنه.

10. يجوز للمُفْتِي أن يفتي أباه وابنه وشريكه، ومن لا تقبل شهادته له؛ وإن لم يجز أن يشهد له، ولا يقضي له. والفرق بينهما، أن الإفتاء يجري مجرى الرواية، فكأنه حكم عام؛ بخلاف الشهادة والحكم، فإنهما يخصان المشهود له والمحكوم له. ولكن، لا يجوز له أن يفتي أباه أو ابنه أو صديقه بشيء، ويفتي غيرهم بضده، محاباة.

فإن قيل: هل يجوز له أن يفتي نفسه؟ قيل: نعم. إذا كان له أن يفتي غيره. وقد قال النبي: )اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، يَا وَابِصَةُ، ثَلاثًا. الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ. وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ( (الدارمي: 2421). وقال: )الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ. وَالإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ... ( (مسند أحمد: 17076). وقال: )الْبِرُّ مَا انْشَرَحَ لَهُ صَدْرُكَ. وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ عَنْهُ النَّاسُ( (مسند أحمد: 17313).

فيجوز له أن يفتي نفسه، بما يفتي غيره به. ولا يجوز له أن يفتي نفسه بالرخصة، وغيره بالمنع. ولا يجوز له، إذا كان في المسألة قولان: قول بالجواز، وقول بالمنع، أن يختار لنفسه قول الجواز، ولغيره قول المنع.

11. إذا سأل المستفتي عن مسألة لم تقع، فهل تستحب إجابته، أو تكره، أو يتخير؟ فيه ثلاثة أقوال، وقد حكى عن كثير من السلف أنه كان لا يتكلم فيما لم يقع. وكان بعض السلف إذا سأله الرجل عن مسألة قال: هل كان ذلك؟ فإن قال: نعم، تكلف له الجواب؛ وإلا قال: دعنا في عافية.

12. إذا عمل المستفتي بفتيا مفت، في إتلاف نفس أو مال، ثم بان خطؤه. قال أبو إسحاق الإسفراييني[5] من الشافعية: يضمن المُفْتِي (أي يتكفل بالتعويض) إن كان أهلاً للفَتْوَى. وإن لم يكن أهلاً، فلا ضمان عليه؛ لأن المستفتي قصر في استفتائه وتقليده. وقيل لا بدّ من تضمين من ليس بأهل؛ لأنه تصدى لما ليس له بأهل، وغر من استفتاه بتصديه لذلك. فشأنه شأن الطبيب الجاهل، إذا آذى مريضاً، أو وصف له علاجاً فمات. والراجح أن المُفْتِي لا يضمن، بأي حال؛ لأن الفَتْوَى غير ملزمة للمستفتي، ولكنها مجرد إخبار. والمستفتي هو المباشر للفعل، فهو الضامن إذاً. في الحديث أن رجلاً من الصحابة، كان في سرية، فأصابه جرح؛ ثم أجنب، فسأل من معه: هل عليه غسل، أم له رخصة. فأجابوه بضرورة الغسل، فاغتسل فمات. ولما علم النبي بذلك، قال: )قَتَلُوهُ، قَتَلَهُمْ اللَّهُ. أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ. إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ( (أبو داود: 284)، (العي: الجهل). ولم يضمّن الرسول أولئك الذين أفتوا الرجل، ولم يلزمهم دفع ديته.

13. إذا لم يعرف المُفْتِي لغة السائل، أو لم يعرف المستفتي لغة المُفْتِي، أجزأ ترجمة واحد بينهما؛ لأنه خبر محض، فيكتفى فيه بواحد، كأخبار الديات والطب، والدعوى والإقرار والإنكار بين يدى الحاكم.

14. فَتَاوَى الصحابة أولى أن يؤخذ بها، من فَتَاوَى التابعين. وفَتَاوَى التابعين أولى من فَتَاوَى من بعدهم، وكلّما كان العهد بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرب، كان الصواب فيها أغلب. وهذا الحكم بحسب الحكم العام في المسألة، وليس بحسب كل فرد من المسائل. فإن عصر التابعين، وإن كان أفضل من عصر تابعيهم، فإنما هو بحسب الجنس، لا بحسب كل شخص شخص. فالمفضلون في العصر المتقدم أفضل من المفضلين في العصر المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم.

15. ينبغي له إذا لم يعرف الجواب، أن يرشد المستفتي إلى مفتٍ آخر، إن كان، وإلاّ فليمسك حتى يعلم الجواب.

16. النظر في السؤال والسائل قبل الفَتْوَى، أو عقد المقارنة بين مستوى السؤال ومستوى السائل، من الناحية العلمية، أو قد يكون السؤال من المعضلات، أو من دقائق الأمور، أو متشابه الآيات، ونحو ذلك مما لا يخوض فيه إلاّ أكابر العلماء، فينبغي للمُفْتِي أن ينظر في حال المستفتي: هل هذا السؤال منه نتيجة شبهة عرضت له يريد إزالتها، أو أن ذلك نتيجة ترف فكري، وفراغ وقتي، جعلاه يتأمل في أشياء ليس هو من أهلها، فإن كان الأول وجب على المُفْتِي أن يقبل على مستفتيه، ويتلطف معه، ويحاول بقدر ما أمكنه أن يزيل ما اشتبه عليه، وإن كان الثاني فينبغي له أن يمتنع عن إجابته، بل ينبغي له أن ينكر عليه سؤاله، ويوجهه نحو ما ينفعه، ويقول له: لا تخض فيما عساه يهلكك؛ لعدم استعدادك له.

17. لا يجوز للمُفْتِي تشتيت السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة، بل عليه أن يبين بياناً مزيلاً للإشكال، متضمناً لفصل الخطاب، كافياً في حصول المقصود، لا يحتاج معه إلى غيره؛ ولا يوجز إيجازاً مخلاً، من دون أن يقدم فائدة: كالمُفْتِي الذي سُئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم بين الورثة على فرائض الله عزّ وجل، وكتبه فلان. وسُئل آخر عن صلاة الكسوف فقال: تصلي على مقتضى الحديث عن عائشة.

18. إذا اعتدل عند المُفْتِي قولان، ولم يترجح له أحدهما على الآخر. قال القاضي أبو يعلى: له أن يفتي بأيهما شاء. وقيل: بل يفتي بالأحوط من القولَيْن. والأظهر أنه يتوقف، ولا يفتيه بشيء؛ حتى يتبين له الراجح منهما؛ لأن أحدهما خطأ، فليس له أن يفتيه بما لا يعلم أنه صواب، وليس له أن يخيّره بين الخطأ والصواب. وهذا كما إذا تعارض عند الطبيب، في أمر المريض، رأيان خطأ وصواب. ولم يتبين له أحدهما، لم يكن له أن يقدم على أحدهما ولا يخيره، وكما لو استشاره في أمر فتعارض عنده الخطأ والصواب، من غير ترجيح، لم يكن له أن يشير بأحدهما، ولا يخيره. وكما لو تعارض عنده طريقان مهلكة وموصلة، ولم يتبين له طريق الصواب، لم يكن له الإقدام ولا التخيير، فمسائل الحلال والحرام أولى بالتوقف.

19. على المُفْتِي أن يفتي بما يعلم أنه الحق، ويصر عليه؛ ولو أغضب من أغضب من أهل الدنيا وأصحاب السلطان، وحسبه أن يرضى الله ـ تبارك وتعالى ـ. وقد امتُحن شيخ الإسلام ابن تيمية؛ من أجل فتاويه، التي خالف بها المألوف، فكادوا له، لدى أولي السلطة، حتى دخل السجن، غير مرة، وظلّ في محنته الأخيرة إلى أن وافاه الأجل. ومن كلامه، في ذلك: سجني خلوة، ونفيي سياحة (هجرة) وقتلي شهادة.

20. أن يرجع عن الخطأ، إذا تبين له، ولا إثم عليه في خطئه، لأنه مأجور عليه، وإنما يأثم إذا عرفه، ثم أصرّ عليه، عناداً وكبراً، أو خجلاً من الناس. وقد كان بعض السلف يفتي سائله، فإذا تبين له خطؤه، يأمر منادياً ينادي في الناس بأن فلاناً الفقيه أفتى اليوم خطأ، ولا يبالي بما يقول الناس.

21. ليس للمُفْتِي أن يطلق الجواب في مسألة فيها تفصيل، إلاّ إذا علم أن السائل يريد أحد تفاصيلها. وإذا كانت المسألة تحتاج إلى التفصيل، طلب تفصيلها، كما استفصل النبي ماعزاً، لما أقرّ بالزنا: )قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ. قَالَ: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ( (البخاري: 6324). قال ابن القيم: "وقد استفصل النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً لما أقرّ بالزنا: هل وجد منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة استفصله: هل به جنون فيكون إقراره غير معتبر، أم هو عاقل؟ فلما علم عقله استفصله: بأن أمر باستنكاهه ليعلم هل هو سكران أم صاح؟ فلما علم أنه صاح استفصله: هل أحصن أم لا؟ فلما علم أنه قد أحصن أقام عليه الحدّ". ومن هذا قوله لما سألته أُمُ سُلَيْمٍ )قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْل،ٌ إِذَا احْتَلَمَت؟ قَال:َ نَعَمْ، إِذَا رَأَتْ الْمَاء.َ فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَة،َ فَقَالَت:ْ أَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ فَبِمَ شَبَهُ الْوَلَدِ( (البخاري: 5626). فتضمن هذا الجواب الاستفصال بأنها يجب عليها الغسل في حال، ولا يجب عليها في حال أخرى.

22. إذا كان السؤال محتملاً لصورٍ عديدة، فإن لم يعلم المُفْتِي الصورة المسؤول عنها، لم يجب عن صورة واحدة منها. وإن علم الصورة المسؤول عنها، فله أن يخصها بالجواب؛ ولكن يقيد، لئلا يتوهم أن الجواب عن غيرها، فيقول: إن كان الأمر كيت وكيت، أو كان المسؤول عنه كذا وكذا، فالجواب كذا وكذا. وله أن يفرد كل صورة بجواب؛ فيفصل الأقسام المحتملة، ويذكر حكم كل قسم. وإن كان بعض العلماء منع من ذلك لوجهَيْن:

أحدهما: أنه ذريعة إلى تعليم الحيل وفتح باب لدخول المستفتي وخروجه من حيث يشاء.

الثاني: أنه سبب لازدحام أحكام تلك الأقسام على فهم العامي. فيضيع مقصوده، فيكره إن استلزم ذلك، ولا يكره، بل يستحب، إذا كان فيه زيادة إيضاح، وبيان وإزالة لبس، وقد فصل النبي في كثير من أجوبته بقوله: إن كان كذا فالأمر كذا، كقوله في الذي وقع على جارية امرأته )إِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا، فَهِيَ حُرَّة.ٌ وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا. فَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ، فَهِيَ لَه،ُ وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا( (أبو داود: 3868). وهذا كثير في فتاويه عليه الصلاة والسلام.

23. عليهْ أن يفتى بالحديث الصحيح، ولو كان خلافاً لمذهبه. قال الشافعي: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله، فقولوا بسنة رسول الله، ودعوا قولي. وروي عنه: إذا صح الحديث خلاف قولي، فاعملوا بالحديث، واتركوا قولي؛ سُنة الصادق الأمين أَوْلى بالاتباع من أي فَتْوَى.

24. إذا كان الاستفتاء في واقعة عظيمة، تتعلق بمهام الدِّين ومصالح المسلمين، ولها تعلق بولاة الأمور؛ فيحسن من المُفْتِي الإسهاب في القول، وإيراد البيانات؛ والمبالغة في إيضاح الحق، بالعبارات الواضحة، السهلة؛ والتهويل على الجناة؛ والحض على المبادرة إلى تحصيل المصالح، ودرء المفاسد. ويحسُـن بسط القول في هذه المَواطن، وذكر الأدلة الحاثة على تلك المصالح الشريفة. ولا ينبغي ذلك في غير هذه المَواطن، بل الاقتصار على الجواب. ومتى كان للمسألة شروط وتفاصيل، منها قريب ومنها بعيد، فالمتعين على المُفْتِي ذكر الشروط والتفاصيل القريبة، دون البعيدة.  

25. أن لا يغلو في ما سهّـل فيه الشرع، أو في ما له مخرج شرعي صحيح؛ إظهاراً للاستمساك بالدِّين وشدة التقوى، وغلبة الورع، وامتثال ظواهر الأحكام، وحرفيات النصوص، وغمزاً للآخرين بأنهم متساهلون ومنحرفون. نقل عن سفيان الثوري أنه قال: "إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة؛ فأمّا التشديد، فيحسنه كلّ أحد".

ويدخل في هذا النوع، كذلك، الوقوف في وجه العادات الجديدة، والأزياء الطارئة، والأدوات المستحدثة، والعلوم الناشئة، والتنظيمات المستوردة أو المخترعة، ونحو ذلك مما ليس فيه نص صريح يمنعه، ولا قياس يرفضه، وفيه المصلحة للناس، والتيسير عليهم في معاشهم. والرافضون لهذه المستجدات، يقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الدِّين؛ لجهلهم بالدنيا والدِّين. (النور: 21). ولا يقول العُرف: إن المرأة إذا لبست الباروكة قد اختمرت، أو غطت رأسها. ولا تدعي لابسة الباروكة نفسها أنها مختمرة. ولا يزعم لغوي: أن هذه "الباروكة" تصلح لأن تسمى "خُماراً".

ومصدر الخطأ، الذي وقع فيه المُفْتِي، هو إخراج الباروكة من مسمى "الوصل الملعون فاعله"، على لسان رسول الله، توهماً منه أنها ليست وصلاً؛ لأنها شعر كامل يلبس فوق الرأس كله، ولذلك يسميها بعضهم "الرأس الصناعي". وكان على هذا المُفْتِي، لو تأمل موضوع السؤال، أن يقول إنها لو لم تكن الوصل المحرم بعينه، لكانت شيئاً أكبر من الوصل؛ لأن الشّـارع إذا كان قد حرّم وصل قصة من الشعر، فكيف بشعر كامل؟! فتحريم هذا من باب أولى، كما يقول العلماء.

وعلى ذلك، فالمطلوب من المُفْتِي، كما هو مقرر عند العلماء، أن يكون عالماً بأوجه الخلاف، في المسألة التي سيُفتي فيها، وألاّ يتقيد بمذهب معين؛ فإن الناس ليسوا مطالبين بذلك، فالأفضل أن يفتي بما صحّ عليه الدليل، ولو كان مخالفاً لمذهبه. فإذا تساوت الأدلة، أفتى بالأيسر لأن النبي ما خُير بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً. مثال ذلك، سؤال هل يجوز أن أمسح على الشراب في الوضوء؟ فالأمثل في الجواب أن يُقال: ذهب بعض العلماء إلى جواز المسح على الشراب رقيقاً كان أم سميكاً سليماً أم مقطوعاً، وذهب بعضهم إلى جواز المسح عليه بشرط أن يكون سميكاً سليماً، وعلى السّائل أن يختار أي الرأيين ولا حرج عليه. وهكذا يقال في كلِّ مسألة وقع فيها الخلاف المقبول، إلاّ إذا كان الدليل قوياً وصريحاً وواضحاً فيجب الفَتْوَى بموجبه.

تنظيم الإفتاء

لا يحق للمُفْتِي، أن يصدر فَتْوَى، مستنداً إلى رأي فقهي يخالف حكم القضاء، في الدولة الإسلامية؛ إذا كان ذلك الحكم، قد استند إلى نص شرعي صحيح، واضح. فإن فعل، كانت فتواه خطأ، ولا يجوز للمستفتي العمل بها؛  بل ينبغي للمُفْتِي أن يأمر المحكوم عليه بطاعة حكم القاضي. مثل ما أفتى بعضهم بضرورة إجراء عمليات ختان الإناث في دولة تحظر ذلك، ومثل ما أفتى أحدهم بقتل كلّ يهودي في دولة بينها وبين اليهود معاهدة سلام وعلاقات دبلوماسية.

وقال العلماء إن الإمام الأعظم، أي خليفة المسلمين، مثله مثل غيره من المسلمين، تجوز فتواه في ما هو أهل له. يتعين عليه الإفتاء، إن لم يوجد من يقوم بالفتيا سواه؛ لأنها فرض كفاية، وفروض الكفايات إلى الإمام زمامها؛ لأنها عبارة عن المصالح العامة، التي لم تتعين على الأفراد. وإن لم يكن ثمة مفتون متبرعون، يؤثرون هذه المهمة، وجب على الإمام أن يضطلع هو نفسه بالإفتاء؛ أو يُوَلّيه مُفْتِياً رسمياً.

وعلى كلٍّ، فإن فتيا الإمام غير ملزمة للمُفْتِي، بل تجوز مخالفته فيها، من دون أن يكون في ذلك إخلال بطاعته الواجبة. ثم قد يكون للمُفْتِي الرسمي ولايات أخرى مثل الإمارة والقضاء والتدريس والوعظ والخطابة وإمامة الجماعة وغير ذلك. وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائماً بوظيفة الإفتاء، إضافة إلى النبوة، والإمامة العظمى، والقضاء، والتعليم، وإمامة الصلاة، والخطابة وغيرها. وكذلك كان الخلفاء الراشدون المهديون يتولون هذه المهمات كلّها، حاشا النبوة، رضي الله عنهم أجمعين. بل قد كان الأمير الذي يوليَّى بلداً أو جيشاً أو نحو ذلك هو مُفْتِيهم. قال حذيفة: "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: رجل إمام أو وال، ورجل يعلم ناسخ القرآن من منسوخه، أو أحمق متكلف". وكان ابن عمر، إذا سُئل في مسألة، قال: إذهب إلى هذا الذي تولى أمر الناس، فضعها في عنقه".

إشراف الإمام على المُفْتِين

لمّا كان الإمام هو القائم على تحصيل المصالح العامة للمسلمين، ودرء المفاسد عنهم؛ فينبغي له حين يوجد من يقوم بالإفتاء على غير الوجه المشروع، أن يمنعه درءاً لفساده. وذلك إن تصدى للإفتاء من هو غير أهل له، أو من هو أهل، ولكن كثرت أغلاطه في العلم، وحصل من فتاواه الضرر، أو انحراف؛ فجعل يفتي بما يناقض مقصود الشارع، وهو من يسمى (المُفْتِي المجان) وهو الذي لا يبالي أن يحرم حلالاً، أو يحل حراماً، فيعلم الناس حيلاً باطلة.

 



[1] اشترط بعض الفقهاء للمُفْتِي أن يكون من أهل الاجتهاد. قال الآمدي، وأما المُفْتِي فلا بدلا وأن يكون من أهل الاجتهاد ـ "الإحكام في أصول الأحكام"، (4/298).

[2] سعيد بن جبير الأسدي (46 ـ 95هـ)، تابعي حبشي الأصل. درس العلم عن عبد الله بن عباس، حبر الأمة، وعن عبد الله بن عمر وعن السيدة عائشة أم المؤمنين في المدينة. سكن الكوفة ونشر العلم فيها، وكان من علماء التابعين، فأصبح إماماً ومعلماً لأهلها، قتله الحجاج بن يوسف الثقفي بسبب خروجه مع عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته على بني أمية. كان دعاء سعيد بن جبير على الحجاج قبل مقتله "اللهم لا تسلطه على قتل أحد من بعدي". وفعلاً مات الحجاج من دون أن يقتل أحداً من بعد سعيد بن جبير. قرأ القرآن على ابن عباس، وأخذ عنه الفقه والتفسير والحديث، كما روى الحديث عن أكثر من عشرة من الصحابة. وقد بلغ رتبة في العلم لم يبلغها أحد من أقرانه. وكان ابن عباس يجعل سعيدًا بن جبير يفتي وهو موجود. ولمّا كان أهل الكوفة يستفتونه، فكان يقول لهم: أليس منكم ابن أم الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير، وكان سعيد بن جبير كثير العبادة لله، فكان يحج مرة ويعتمر مرة في كل سنة، ويقيم الليل، ويكثر من الصيام. راجع: سير أعلام النبلاء، 4/323.

[3] هو عبد الله بن محمد المعتز بالله ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد العباسي. ولد سنة 247هـ، في بغداد، وأولع بالادب، فكان يقصد فصحاء الأعراب ويأخذ عنهم، وصنف كتباً، منها: الزهر والرياض والبديع والآداب والجامع في الغناء والجوارح والصيد وفصول التماثيل وحلي الأخبار وأشعار الملوك وطبقات الشعراء. جاءته النكبة من حيث يسعد الناس: توفي المكتفي بالله سنة 296 واتفق رجال البلاط على تولية أخيه المقتدر العباسي وسنه 13 عاماً، ثم استصغروه فخلعوه بعد أربعة أشهر، وأقبلوا على ابن المعتز، فلقبوه المرتضي بالله وبايعوه بالخلافة، فأقام يوما وليلة، ووثب عليه غلمان المقتدر فخلعوه، وعاد المقتدر فقبض عليه وأمر بقتله. راجع: أحمد كمال زكي، "ابن المعتز العباسي ط1، وسلسلة أعلام العرب، ص268. 

[4] شريح بن هانئ أبو المقدام الحارثي المذحجي الكوفي الفقيه، صاحب علي ـ رضي الله عنه. حدث عن أبيه وعلي وعمر وعائشة وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة؛ وعنه ابناه محمد والمقدام والشعبي والقاسم بن مخيمرة وحبيب بن أبي ثابت ويونس بن أبي إسحاق. شهد تحكيم الحكمَيْن، ووفد على معاوية شافعا في كثير بن شهاب فأطلقه له. عاش شريح بن هانئ مائة وعشرين سنة. راجع: سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، ج 4، ص 112.

[5] هو الإمام العلامة الأوحد، الأستاذ، أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الإسفراييني، الأصولي الشافعي، الملقب ركن الدين. أحد المجتهدين في عصره، وصاحب المصنفات الباهرة. ارتحل في الحديث، وسمع من: دعلج السجزي، وعبد الخالق بن أبي روبا، وغيرهما. حدث عنه: أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وأبو الطيب الطبري. ومن تصانيفه كتاب "جامع الخلي في أصول الدين والردِّ على الملحدين"، في خمس مجلدات. وبُنيت له بنيسابور مدرسة مشهورة. توفي بنيسابور يوم عاشوراء من سنة ثماني عشرة وأربع مائة. راجع:  سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، ج 7، ص 119.