إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الفتوى









المعنى الشرعي

الفصل الأول

تعريف الفَتْوَى، وموجز لتاريخ نشأتها

 

المعنى اللغوي

ورد في المصباح المنير: الفَتْوَى بالواو (بفتح الفاء): اسم من "أفتى" العالِم، إذا بَيَّن الحكم. واستفتيته: سألته أن يُفتي. والجمع "الفتاوِي" (بكسر الواو)، على الأصل. وقيل يجوز الفتح للتخفيف (الفتاوَى)

وقال ابن منظور: الفُتْيَا والفُتوى والفَتْوَى: ما أفتى به الفقيه. وأفتاه في الأمر: أبانه له. وأفتى الرجل في المسألة. واستفتيته فيها فأفتاني إفتاءً. وفُتىً وفتوى: اسمان يوضعان موضع الإفتاء. ويقال: أفتيت فلاناً رؤيا رآها؛ إذا عبرتها له. وأفتيته في مسألته إذا أجبته عنها. وفي الحديث: )أن قوماً تفاتوا إليه(، معناه تحاكموا إليه، وارتفعوا إليه في الفُتْيا. والفُتْيا تبيين المشكل، وتوضيح الغامض من الأحكام. وأفتى المُفْتِي، إذا بيّن حكماً لله في مسألة ما. قال تعالى: )وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ( (النساء: 127).

وقال أبو إسحاق[1] في قوله تعالى: )فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا( (الصافات: 11)، أي فاسألهم سؤال تقرير، أهم أشدّ خلقاً أم من خلقنا من الأمم السّالفة. وقوله ـ عزّ وجلّ ـ: )يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ( (النساء: 176)، أي يسألونك سؤال تَعَلُّمٍ.

وفي الحديث، قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصحابي يُدْعَى وابصة: )يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ نَفْسَكَ. الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ. وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ( (مسند أحمد: 17315)، أي وإن جعلوا لك فيه رخصة وجوازاً.

المعنى الشرعي

قيل: الإفتاء هو "الإخبار بالحكم الشرعي للسائل عنه، في أمر واقع". وقيل: الإخبار بالحكم الشرعي حسب قواعد الفقه وأصوله. أو هو بيان حكم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بمقتضى الأدلة الشرعية، على جهة العموم والشمول.

وعرفها ابن حمدان الحراني الحنبلي[2] بقوله: "تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه".

ولا ينبغي أن يتعرض للفَتْوَى إلاّ فقيه عالم بالشريعة. قال أبو محمد بن حزم: الفقه، هو المعرفة بأحكام الشريعة، من القرآن، ومن كلام المرسل بها، الذي لا تؤخذ إلاّ عنه. وتفسير هذا، هو المعرفة بأحكام القرآن، وناسخها ومنسوخها؛ والمعرفة بكلام رسول الله، ناسخه ومنسوخه؛ وما صح نقله، مما لم يصح؛ ومعرفة ما أجمع العلماء عليه، وما اختلفوا فيه؛ وكيف يُرد الاختلاف إلى القرآن وكلام الرسول. فهذا تفسير العلم بأحكام الشريعة. وكلّ من علم مسألة واحدة من دينه، على حسب الصفة التي ذُكرت، جاز له أن يفتي بها. وليس جهله بما جهل، بمانع من أن يفتي بما علم؛ ولا علمه بما علم، بمبيح له أن يفتي في ما جهل. وليس أحد، بعد النبي، إلاّ وقد غاب عنه من العلم كثير، موجود عند غيره. فلو لم يفتِ إلاّ من أحاط بجميع العلم، لما حل لأحد من الناس، بعد رسول الله، أن يفتي، أصلاً. وهذا لا يقوله مسلم. وهو إبطال للدين، وتضييع لمصالحه.

وفي بعث النبي الأمراء إلى البلاد؛ ليعلموا الناس القرآن، وحكم الدِّين؛ ولم يكن أحد منهم يستوعب جميع ذلك؛ لأنه كانت تنزل بعدهم الآيات والأحكام ـ بيان صحيح بأن العلماء، وإن فاتهم كثير من العلم، فإن لهم أن يفتوا، ويقضوا بما عرفوا. وهذا بيان جليّ بأن من علم شيئاً من الدِّين علماً صحيحاً، له أن يفتي به؛ وعليه أن يطلب علم ما جهل مما سوى ذلك. ومن علم أن في المسألة، التي نزلت، حديثاً، قد فاته، لم يحلّ له أن يفتي في ذلك، حتى يقع على ذلك الحديث.

ومن لم يعلم الأحكام، على الصفة التي ذُكرت من قبل؛ وإنما أخذ المسائل تقليداً (أي اتباعاً لغيره من دون علم بالدليل)؛ فإنه لا يحلّ لمسلم أن يستفتيه. ولا يحلّ له أن يفتي بين اثنين. ولا يحلّ للإمام أن يوليه قضاءً، ولا حكماً، أصلاً. ولا يحلّ له، إن قُلد ذلك، أن يحكم بين اثنَيْن. وليس أحد، بعد النبي، إلاّ وهو يخطئ ويصيب؛ فليس خطؤه بمانع من قبول صوابه. فلا يوجد مفتٍ في الدِّين، أبداً، إلاّ أحد ثلاثة أناس: إمّا عالم، فيفتي بما بلغه من النصوص، بعد البحث والتقصي عما يلزمه؛ فهذا مأجور، أخطأ أو أصاب؛ وواجب عليه أن يفتي بما علم. وإمّا فاسق، يفتي بما يتفق له، رغبة منه في الوجاهة، أو كسب مالي؛ وهو يدري أنه يفتي بغير مبرر. وإمّا ضعيف العقل، يفتي بغير يقين، وهو يظن أنه مصيب، ولم يبحث حق البحث؛ ولو كان عاقلاً، لعرف أنه جاهل؛ فلم يتعرض لما لا يحق له.

تعريف المُفْتِي

اختلف العلماء في تعريفه، على آراء، أهمها:

1. المُفْتِي هو المجتهد المطلق، وهو الفقيه. ولهذا قال العلماء، إنه خاص بمن قام للناس بأمر دينهم، وعلم عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه؛ وكذلك في السنن والاستنباط. ولم يوضع لمن عَلِم مسألة، وأدرك حقيقتها.

2. وقال بعضهم: هو من استكمل ثلاثة شروط: الاجتهاد، والعدالة، والكف عن الترخيص والتساهل. وللمتساهل حالتان: إحداهما، أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام، ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر؛ وهذا مقصّر في حق الاجتهاد، ولا يحلّ له أن يفتي، ولا يجوز. والثانية، أن يتساهل في طلب الرخص وتأوّل السنَّة؛ فهذا متجوز في دينه، وهو أشد إثماً من الأول.

3. ويذهب بعض العلماء إلى أن المُفْتِي، يكفي فيه أن يكون متبحراً في مذهب إمامه، فاهماً لكلامه، عالماً لراجحه من مرجوحه، خبيراً بالمرجوع عنه، من المرجوع إليه. فلا يشترط فيه أن يكون مستطيعاً لاستنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية، ولا متبحراً في الكتاب والسنَّة عالماً بوجوه مباحثهما.

وقد أيَّد أصحاب هذا الرأي كلامهم، بأن اشتراط الاجتهاد المطلق في المُفْتِي، يفضي إلى حرجٍ عظيمٍ، واسترسال الخلق في أهوائهم. ثم إن المُفْتِي، حينما يكون متبحراً في مذهب إمامه، يكون ذلك كافياً؛ إذ إنه يغلب على ظن العامي أن حكم الله عنده. والقضاء، وهو مركز عظيم، قد أجمع الناس على تنفيذ أحكام من تولاه، من دون مراعاة لحصول شرط الاجتهاد فيه؛ فليكن للمُفْتِي ما للقاضي، من حيث عدم اشتراط الاجتهاد فيه؛ بل إنه قد انعقد الإجماع على هذا النوع من الفتيا.

إضافة إلى ما تقدم، يحدّث التاريخ، أن أناساً برزوا، في العصور الزاهية للإسلام؛ وملأوا الدنيا بعلومهم وآرائهم الصائبة، وادعوا الاجتهاد المطلق، تبعاً لذلك. ومع ذلك، لم يُسَلّم لهم أهل عصرهم به. وإذا أضيف إلى ذلك، ما يشاهد من واقع الأمة الإسلامية، من كثرة الجهل بأحكام الدِّين، في كثير من أفرادها، وكثرة المشاغل، التي تنتاب الفئة المتخصصة بأحكام الشريعة الإسلامية، ما قد يحول بينهم وبين الوصول إلى درجة الاجتهاد المطلق في أحكام شريعتها؛ تبين أنه لا يشترط في من يتبوأ هذا المنصب، أن تتوافر فيه صفة الاجتهاد المطلق.

دور المُفْتِي، إذاً، أن يستنبط أو يستشف مراد الله ورسوله، من خلال القرآن والسّنة؛ مستعيناً على ذلك، باللغة وعلومها، ومعرفة علوم القرآن والحديث، ومراعاة الواقع، وحال المستفتي، وصورة الواقعة الحادثة. وعليه أن يجتهد، كذلك، في استنباط أحكام القضايا المستجدة، التي لم ترد في قرآن، ولا سُـنَّة، ولا إجماع.

الفرق بين الفَتْوَى والقضاء

القضاء هو فصل الخصومات، وقطع المنازعات، على وجه خاص، بمقتضى تكليف من حاكم المسلمين، وفقاً لحكم الشرع. أمّا الفَتْوَى فحكم الشرع الذي يخبر عنه المُفْتِي بإفتائه.

وذكر العلماء جملة من الفروق، بين الفَتْوَى والقضاء، أهمها:

* قضاء القاضي إنشاء، لا إخبار، أي أنه ينشئ صيغة لحكم في مسألة، تعني الإلزام للشخص المعين، بما يعلم أن شرع الله يأمر به. أمّا الإفتاء، فهو محض إخبار بما هو مطلوب، شرعاً، من المسلم، أو بما هو مباح له.

* القضاء لا يكون إلاّ بلفظ منطوق. أمّا الفَتْوَى، فقد تكون بالقول، أو بالفعل، أو بالإشارة، أو بالكتابة

* في القضاء، يلزم المحكوم عليه قبوله، والعمل به؛ أخطأً كان القضاء أم صواباً. أمّا الفَتْوَى، فلا يلزم المستفتي قبولها، أو العمل بها، ما لم يعلم أنها صحيحة، وموافقة للشريعة.

* فَتْوَى المُفْتِي، هي أعظم خطراً وأهمية من قضاء القاضي؛ لأنها تُعد تشريعاً عاماً، يتعلق بالسّائل وغيره. أمّا حكم القاضي، فهو خاص، لا يتجاوز المحكوم عليه، أو المحكوم له.

* القضاء يختص بالمعاملات فقط، أمّا الفَتْوَى، فتكون في المعاملات والعبادات، والأخلاق والآداب.

* القضاء يكون في الأمور الواجبة، أو المباحة، أو المحرمة؛ ولا يكون في الأمور المكروهة، أو المستحبة. أمّا الإفتاء، فيكون في تلك الأمور وغيرها.

* الفَتْوَى تلزم المستفتي، إذا كان متبعاً لمذهب المُفْتِي، ولا تُلزمه إن كان متبعاً غير مذهبه. بخلاف القضاء فإنه يلزم الجميع. فالفَتْوَى أعم من القضاء، وأخص لزوماً.

* يشترط في القاضي الحرية والذكورة والسّمع، وأن لا يحكم في قضية، أحد اقربائه خصم فيها. أمّا المُفْتِي، فلا يؤثر في صحة فتواه، كونه امرأة أو عبداً أو أصمَّ أو أعمى، أو أن يفتي لقرابته؛ لأن الفتيا غير ملزمة، خلاف القضاء. (انظر ملحق هل الذكورة شرط لتولي القضاء؟).

* حكم القاضي، لا يُنقض باجتهاد مثله؛ ولو حكم غيره بخلافه، لم يكن نقضاً لحكمه. أمّا الفَتْوَى، فيحق لكل مُفْتٍ النظر في ما أفتى به غيره، والإفتاء بخلافه، أو موافقته.

موجز لتاريخ نشأة الفتوى
كان رسول الله ـ إن صحَّ التعبيرـ أول من تبوأ منصب الإفتاء؛ إذ كان رسولاً، ومُفْتِياً، يعلم الناس أمور دينهم، ويبلّغهم شرع ربهم، ويفتيهم في ما يستجدّ لهم من حوادث. ثم خلفه في ذلك خلفاؤه الراشدون، فقاموا بمنصب الإفتاء خير قيام. كما نهض التابعون من بعدهم بمهام الإفتاء على سنن من سبقهم. وبلغ الإفتاء والاجتهاد ذروته، على أيدي الفقهاء الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ابن حنبل، وغيرهم؛ حيث كثرت المستجدات، فدعت إلى الإمعان في الفكر والاستنباط. فضلاً عن أن المصادر الاجتهادية، قد ضبطت، وضيِّقت دائرتها؛ فمُنع الاجتهاد إلاّ في إطارها، بَلْهَ الاجتهاد في مورد النص.

ولئن بلغ الاجتهاد والإفتاء ذروتهما في عهد الفقهاء الأربعة، فإن الاجتهاد، بعدهم، اطَّرد ضعفه؛ بل انهار، واكتُفي بتقليدهم؛ بل نودي بإقفال باب الاجتهاد، حؤولاً دون التلاعب بأحكام الشريعة، وإصدار الفتاوي الباطلة، تحت ضغط المصالح الخاصة للحكام.

فَتَاوَى الرسول واجتهاداته

كانت فَتَاوَى الرسول الكريم إخباراً عن حكم الله، وتبليغاً لوحيه. شملت كافة أبواب الشريعة، ومختلف مناحي الحياة، وغدت أحكاماً عامة، يلتزم بها الناس، إلى يوم القيامة. فإن كان بعض من فتاواه اجتهاداً منه، إلاّ أنه لم يكن يُقر فيها على خطأ؛ إذ كان الوحي ينزل، من الفور، بتصحيح الوقائع. ولا أدلّ على ذلك من معاتبة الله لنبيه في قبوله الفداء في أسرى بدر من الكفار، بدلاً من قتلهم، قال ـ تعالى ـ: )مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( (الأنفال: 67). وما فعل الرسول ذلك إلاّ اجتهاداً منه؛ عملاً بعموم العفو والصفح، المأمور به من ربه، قبل نزول آيات القتال؛ ولحاجة المسلمين إلى المال، الذي يقويهم؛ ومصداقاً لمكارم الأخلاق، من العفو عند المقدرة. ومعاتبته له كذلك، في ردِّه على خولة بنت ثعلبة، حين سألته عن ظهار زوجها،(أي قوله لها أنت عليّ حرام كظهر أمي)، فاجتهد النبي بأنها قد حَرُمت عليه؛ فظلّت تجادله، حتى قالت أخيراً: إني أشتكي إلى الله؛ فنزل الوحي بتخطئة اجتهاده: )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (المجادلة: 1-4).

وظلّ الرسول، طوال حياته بعد بعثته، هو المرجع الوحيد للمسلمين؛ يجتهد لهم في شؤون دينهم ودنياهم. فقد أتته، مثلاً، امرأة فَقَالَتْ: )يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ. أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَال:َ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكِ عَنْهَا؟ قَالَت:ْ نَعَمْ. قَال:َ فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ( (صحيح مسلم: 1938). وأتاه رجل، منكراً لولده، الذي جاءت به امرأته أسودَ اللون. فقال له رسول الله: )هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَال:َ نَعَم.ْ قَال:َ مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ حُمْر.ٌ قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَق؟ (أي أبيض اللون كالفضة). قَال:َ نَعَم.ْ قَال:َ فَأَنَّى ذَلِك؟َ قَال:َ لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْق!ٌ قَال:َ فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْق( (البخاري: 4893). وكان في ذلك الحكمة البالغة من تعليم الأمة، وتدريبها على الاجتهاد في الأحكام واستنباطها. ولم تكن فتاواه كلها اجتهاداً، بل إن هناك أموراً، سُئل فيها، فتوقف عن الإجابة، منتظراً الوحي. ومن ذلك:

1. أنه لمّا نزل قوله تعالى: )وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( (الأنعام: 152)، ثم قوله تعالى )إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا( (النساء: 10)، سارع من كان عنده يتيم إلى عزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، فجعل يَفْضُل من طعامه، فيحبسه حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله، فأمسك عن الفتوى إلى أن أنزل الله تعالى: )وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( (البقرة:220)، فخلطوا طعامهم بطعام اليتامى، وشرابهم بشرابهم.

2. ومن ذلك، ما جاء في بَاب غَسْلِ الْخَلُوقِ مِنْ الثِّيَابِ (أي الثياب التي عليها عطور) ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ أن رجلاً جاء إلى النبي، بعد الإحرام بالعمرة، متضمخاً بالطيب، محرماً في جبة، يسأل عن حكم إحرامه في حاله تلك. فنظر إليه رسول الله، ولم يجبه؛ فجاءه الوحي، فلما سرّي عنه التمس الرجل، فجيء به، فأمره بما أوحي إليه، قائلاً: )اغْسِلْ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ. وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ. وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ، كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ( (صحيح البخاري: باب غسل الخلوق).

3. وسُـئل النبي عن ضالة الإبل، فقال: )وَمَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا( (البخاري: 89). ربها: أي صاحبها. وإذا كن عمل الخلفاء بعده بخلافها، فقد كان ذلك منهم مراعاة  لمصالح العباد، آنئذ.

4. وسُئل عن ضَالَّةِ الْغَنَمِ، فقال: )خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ( (البخاري: 89).

5. وسُـئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقاً حتى توفي، فقضى لها النبي بمثل صداق نسائها، وعليها العدة ولها الميراث (ابن ماجه: 1881).

6. وسأله طارق بن سعيد عن الخمر يصنعها للدواء. فقال: )إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ( (مسند أحمد: 18104).

7. وسُـئل عن الرجل يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فقال: )مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ( (البخاري: 6904).

وغير ذلك كثير، نقل منه ابن قيم الجوزية أكثر من 150 صفحة.

في عهد الصحابة

كان الصحابة يخشون أن يجترئ الناس على القول في الدِّين، بلا علم، إلاّ اتباع الهوى والظن. وكانوا، كذلك، ينهون عن الاستفتاء في مسائل لم تقع. فلما سُئل عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ عن مسألة، فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا، قالوا: دعونا حتى تكون، تجشمناها.

وكان الواحد منهم، إذا اجتهد برأيه قال: "هذا رأيي. فإن يكن صواباً، فمن الله. وإن يكن خطأ، فمني؛ واستغفر الله". بيد أن الصحابة كان منهم مكثر من الفَتْوَى، ومقل؛ تجاوز عددهم مائة وثلاثين صحابياً، ما بين رجل وامرأة، والمكثرون منهم سبعة فقط، هم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود، وعائشة أُمّ المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهم ـ. أمّا الآخرون، فلا يُروى عن الواحد منهم إلاّ المسألة والمسألتان.

ومن الفتاوي المشهورة عن الصحابة، فَتْوَى علي بن أبي طالب، أن مدة الحمل، يمكن أن تكون ستة أشهر فقط. فقد جيء بامرأة متزوجة، وضعت بعد ستة أشهر، إلى عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ، وأراد أن يقيم عليها حدّ الزنا، فمنعه علي؛ مستدلاً بقول الله: )وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا( (الأحقاف:15)، و)وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ( (البقرة: 233)، على أن مدة الرضاعة أربعة وعشرون شهراً، إذا اقتطعت من ثلاثين شهراً، يتبقى ستة أشهر، هي مدة الحمل.

وأفتى الفاروق، عمر بن الخطاب، بأن الحامل، المتوفى عنها زوجها، تنتهي عدتها بوضع الحمل، ولو بعد ساعة واحدة من وفاة زوجها؛ لقوله ـ سبحانه وتعالى ـ: )وأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ( (الطلاق: 4). ولكن عليَّ بن أبي طالب، أفتى بأن عليها أن تعتد بأبعد الأجلَين، إمّا أربعة أشهر وعشراً؛ لقوله تعالى: )وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا( (البقرة: 234)؛ أو بوضع الحمل، إذا زادت مدته على ذلك. وأفتى أبو بكر بتوريث الجد، مثل الأب، سواء بسواء. وأفتى زيد بن ثابت بأن الجدّ، إما أن يُعامل معاملة الأخ، أو يأخذ سدس جميع المال، أو يأخذ ثلث باقي المال، بعد أصحاب الفروض. وغير ذلك كثير.

في عهد التابعين

انتشر الصحابة في البلاد المفتوحة، بعد وفاة عمر بن الخطاب؛ وأصبح لهم تلاميذ. فكان أهل المدينة، يتبعون فتاوي ابن عمر وزيد بن ثابت. واتبع أهل مكة فتاوي ابن عباس. واتبع أهل الكوفة فتاوي ابن مسعود. كما اعتمد أهل البصرة فتاوي أبي موسى الأشعري وأنس بن مالك. واتبع أهل الشام فتاوي معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت. وكل صحابي من هؤلاء، خرّج سلسلة من العلماء، انتهت بأئمة أعلام. ومثال ذلك، أن علقمة بن قيس النخعي[3]، كان من أبرز تلاميذ ابن مسعود. وعن علقمة، أخذ إبراهيم النخعي، وعن إبراهيم، أخذ حماد بن أبي سليمان[4]. وعن حماد، أخذ الإمام أبو حنيفة النعمان. وعن ابن عمر، أخذ مولاه، نافع[5]. وعن نافع أخذ الإمام مالك، ثم الإمامان الشافعي وأحمد.

وظهرت مدرسة الحديث، ومدرسة الرأي. وظهرت أدلة جديدة للأحكام، تلقاها العلماء بالقبول؛ وصارت هي القواعد المعمول بها، إلى يومنا هذا؛ ومنها: القياس، والاستحسان، والمصلحة المرسلة، واعتبار العرف الصالح، والبراءة الأصلية ( أي اعتبار أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص صحيح بالتحريم)، وسدّ الذرائع (أي دفع المفاسد)، وعمل أهل المدينة.

وبعد منتصف القرن الرابع الهجري، انتهى دور الأئمة المجتهدين؛ وراج التقليد. وساعده على الرواج تفكك الدولة الإسلامية؛ وتعصب أتباع المذاهب لمذاهبهم؛ وشدة الحكام، وخشية كثير من العلماء لهم، حتى إن كثيراً من القضاة والمُفْتِين، خضعوا لإرادات الحكام.

 



[1] هو أبو إسحاق الشيباني سليمان بن أبي سليمان فيروز الكوفي. ولد في أيام الصحابة، كابن عمر وجابر، ولحق عبد الله بن أبي أوفى وسمع منه، وحدّث عن جماعة من كبار التابعين. وكان من أوعية العلم. قال أبو إسحاق الجوزجاني: رأيت أحمد بن حنبل يعجبه حديث الشيباني. وقال البخاري: مات سنة إحدى أو اثنتين وأربعين ومائة. راجع: سير أعلام النبلاء للذهبي :ج6 ص 193.

[2] ابن حمدان الحراني الحنبلي ( 603 - 695 هـ = 1206 - 1295 م)، أحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان النميري الحراني، أبو عبد الله، فقيه حنبلي أديب. ولد ونشأ بحران، ورحل إلى حلب ودمشق، وولي نيابة القضاء في القاهرة، فسكنها وأسن وكف بصره وتوفي بها. راجع : الأعلام للزركلي.

[3] علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان ابن كهل. فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها الإمام الحافظ المجتهد الكبير. وُلِد في أيام الرسالة المحمدية، وعداده في المخضرمين، وهاجر في طلب العلم والجهاد ونزل الكوفة، ولازم ابن مسعود حتى رأس في العلم والعمل، وتفقه به العلماء وبعد صيته. حدّث عن عمر وعثمان وعلي وسليمان وأبي الدرداء، وطائفة سواهم. وجوّد القرآن على ابن مسعود، وتفقه به أئمة، كإبراهيم والشعبي، وتصدى للإمامة والفتيا بعد علي وابن مسعود. يُقال تُوفي في خلافة يزيد سنة خمس وستين. راجع: سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي ج4 ص53ـ61.

[4] هو العلامة الإمام فقيه العراق، أبو إسماعيل بن مسلم الكوفي، أصله من أصبهان. روى عن أنس بن مالك، وتفقه بإبراهيم النخعي، وهو في عداد صغار التابعين. أشهر تلامذته: الإمام أبو حنيفة، وابنه إسماعيل بن حماد، والحكم بن عتيبة. كان أحد العلماء الأذكياء والكرام الأسخياء له ثروة وحشمة وتجمل. من أفضل أقواله: "إني أن أكون تابعاً في الحق خير من أن أكون رأساً في الباطل". كان يفطر في شهر رمضان خمس مئة إنسان، وكان يعطيهم بعد العيد لكل واحد مئة درهم. مات حماد سنة عشرين ومائة. راجع: سير أعلام النبلاء، للحافظ الذهبي، ج ص119.

[5] هو نافع بن جبير ابن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي، الفقيه الإمام الحجة، وقال ابن حبان: كان من خيار الناس، كان يحج ماشياً وناقته تقاد، وكان يخضب بالوسمة. توفي سنة تسع وتسعين. سير أعلام النبلاء، للحافظ الذهبي، ج ص56.