إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الفتوى









المعنى الشرعي

المقدمة

فَتْوَى من جهة ما دفعت جماعة إلى فتح النار على منصة، في 6 أكتوبر1973؛ فسقط رئيس أكبر دولة عربية مضرجاً في دمائه!

فَتْوَى من جهة ما دفعت نفراً من الشباب إلى اختطاف طائرات، والانتحار بها، ومن فيها، في 11 سبتمبر 2001؛ لتدمير برجي التجارة العالميين، وضرب مبنى البنتاجون الأمريكي! ومن ثم هياج أقوى دولة في العالم، وتحريكها جيوشها الجرارة؛ واحتلالها لدولتَيْن مسلمتَيْن: أفغانستان، والعراق، والمزيد من تدهور العالم الإسلامي!

فَتْوَى بإهدار دم كاتب هندي مغمور، لا شأن له، تطاول على أفضل خلق الله، جعلت من هذا المغمور شخصاً شهيراً، على مستوى الإعلام العالمي كلّه، وجلبت له الأموال الطائلة. بل إقبال الناس على قرائة كتابه "آيات شيطانية"، وتأثر البعض بها.

فَتْوَى غدت محلّ تندّرٍ وسخرية بجواز إرضاع العاملة والموظفة لزميلها في أماكن العمل مثلت إهانة للإسلام‏,‏ بعد أن أصبحت مصدرا للنكات والتشنيع على الدين من بعض الكتاب‏,‏ كما أصبحت وسيلة لبعض الشباب لمعاكسة البنات، وجرح حيائهن، في خضم فوضى مخزية من عجيب الفتاوى. (انظر ملحق فوضَى الفَتَاوَى)

ومن أغرب الفتاوى، فتوى قتل الشخصية الكرتونية ميكي ماوس، وعدم جواز البوفيه المفتوح؛ لأنّ فيه تغريراً بالناس؛ وكذلك الفتوى، التي تذهب إلى بطلان زواج أي رجل وامرأة يخلعان ملابسهما أثناء ممارستهما لعلاقتهما الزوجية.

وأغرب من ذلك الفتوى، التي تبيح القبلات بين الشباب والفتيات في الأماكن العامة؛ بسبب أن ذلك من "الضعف البشري وتدخل ضمن اللمم في الإسلام، أي الذنوب الصغيرة التي تمحوها الحسنات"، ما أثار جدلا واسعا في الأوساط الدينية والعلمية.

وغير ذلك كثير: فَتَاوَى تُشْـعل فتناً طائفيةً، وأخرى تشعل حروباً ضاريةً، وأخرى تشعل الصدام بَيْن أجهزة الأمن وتيارات بعينها، في بلاد إسلامية. وغيرها تدفع شباباً غُرر بهم إلى تنفيذ تفجيرات في مواقع حساسة في عواصم كبرى، مثل الرياض.

كلُّ ذلك، يبين أن أمر الفَتْوَى أمرٌ عظيمٌ، وأن مراعاة شأنها والالتزام بضوابطها ينبغي أن يكون الشغل الشاغل لولاة أمور المسلمين. ولقد كان الصحابة، وأئمة التابعين، يرون أنه إذا ظهر في المسلمين من يفتي بغير علم، فهو نذير بشؤم عظيم؛ لأن ذلك من الأمور شديدة التحريم، فهو افتراء على الله. فقد قال تعالى: )قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ( (الأعراف: 33). وقال ـ عزّ وجلّ ـ: )وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُون (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (النحل: 116 و117).

رُوي عن الإمام مالك، أنه قال: "أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة (وهو من كبار التابعين، وهو شيخ الإمام مالك، وإمام مسجد رسول الله)، فوجده يبكي بكاءً شديداً، فارتاع لبكائه، وقال: ما يبكيك؟ أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: لا؛ ولكن استُفتى من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم". لذا، ينبغي لإمام المسلمين، أن يتصفح أحوال المُفْتِين؛ فمن كان يصلح للفَتْوَى، أقره عليها. ومن لم يكن من أهلها، منعه منها، وأمره بأن لا يتعرض لها، وأوعده بالعقوبة، إن لم ينته عنها. قال ابن قيم الجوزية ـ يرحمه الله: "إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ حرَّم القول عليه بغير علم، في أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه. والمُفْتِي يخبر عن الله وعن دينه. فإن لم يكن خبره مطابقاً لما شرعه الله، كان قائلاً عليه بلا علم. ولكن، إذا اجتهد وبذل وسعه في معرفة الحق، وأخطأ، لم يلحقه الوعيد، وعُفي له عما أخطأ به، وأثيب على اجتهاده. ولكن، لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده، ولم يظفر فيه بنص عن الله ورسوله، إن الله حرّم كذا، وأوجب كذا، وأباح كذا. وإن هذا هو حكم الله".

وأنشد بعض الأعلام، في هذا المقام:

إذا استفتيتَ عَمَّا فيـ                 ـه تحريم وإحلال

فَلا تَعْجَل، فَفِي فَتْـوَا                 ـك أخطاء وأهوال

فَإن أخطأت في الفَتْوَى                فبئس الأمر والحال

وإِنْ أَحْسَنْتَ، لا يَغْـرُرْ               ـك إعجاب وإدلال

وقد كان النبي يرسل صحابته إلى البلاد؛ ليعلموا الناس القرآن، وحكم الدِّين. وكذلك فعل الخلفاء من بعده، وكان الخلفاء من بني أمية، ينصبون للفَتْوَى، بمكة، في أيام موسم الحج، قوماً يعينونهم؛ ويأمرون بأن لا يُستفتى غيرهم. فلمّا مضى الزمان، وبعُد العهد بالنبوة، جهل الناس آداب الفَتْوَى وأحكامها، بل تجاسر عليها من ليس من أهلها. وبعد منتصف القرن الرابع الهجري، انتهى دور الأئمة المجتهدين؛ وراج التقليد، أي الاتباع الأعمى من دون الاجتهاد في ما يجد من وقائع. وساعده على الرواج تفكك الدولة الإسلامية؛ وتعصب أتباع المذاهب لمذاهبهم؛ وشدة الحكام، وخشية كثير من العلماء لهم، حتى إن كثيراً من القضاة والمُفْتِين، خضعوا لإرادات الحكام.

ولما تخلّف المسلمون، حضارياً وفكرياً، أكثروا من الأسئلة التي لا يصلح بها دين، ولا ترتقي بها دنيا، ولا يزكو عليها فرد، ولا تنهض بها جماعة. وشغل عوام المسلمين بمسائل وتفصيلات، لم تخطر ببال أحد من سلف الأمة. ومنها: ما لون كلب أهل الكهف؟ وهل كان ذكراً أم أنثى؟ وأين كانوا؟ ومتى كانوا؟ مع أن الله تعالى لم ينص على شيء من ذلك، ولو علم فيه خيراً لنا لذكره.

وقد جدّت في الحياة حوادث وقضايا، لم يتكلم فيها من سلف من العلماء، وأضحت حاجة الناس إلى من يفتيهم، أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب. فالمسلم يتعرض لحوادث يومية، وقضايا يحتاج أن يعلم حكم الله فيها. وكان العلماء، فيما سبق من القرون، يحرّمون على المسلم أن يسكن ببلد، ليس فيها من يفتيه؛ لأنه يحتاج، دائماً، إلى الفَتْوَى والمُفْتِي؛ ويشق عليه أن يسافر، في كل مسألة، إلى من يفتيه.

يتناول البحث، بإيجاز، ما تفرق في بطون الكتب، من أحكام وآداب، تتعلق بالفَتْوَى. بدأها بتعريفها اللغوي والشرعي، فموجز لتاريخ نشأتها، منذ عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم تطرق إلى أهميتها، وخطر الإفتاء بغير علم. وفصَّل شروط المُفْتِي وآدابه، وبيّن ما يُستحب أن يتحلى به المستفتي من آداب. وتعرّض لتغيّر الفَتْوَى وأسباب اختلافها، حسب تغيّر البيئة والظروف. ثم سعَى إلى بيان الضوابط العامة للفَتْوَى، انتهاء بتفصيل مقومات الاجتهاد، في الواقع المعاصر. وذيل بالملاحق المهمة المتعلقة بالموضوع.