إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / إيران.. التاريخ والثورة (الثورة الإيرانية من وجهة النظر الإيرانية)




هاشمي رافسنجاني
محمود أحمدي نجاد
محمد رضا بهلوي
محمد علي رحماني
محمد علي رجائي
آية الله منتظري
مير حسين موسوي
الإمام آية الله الخوميني
سيد محمد خاتمي
سيد علي خمنة آي





المبحث الثاني

المبحث الرابع

عهد خاتمي وسياسته الخارجية

التكتلات السياسية في إيران عند تولي خاتمي

      لم يكن في إيران أحزاب سياسية حتى عهد خاتمي بعد أن ألغى الخميني حزب الجمهورية الإسلامية الذي قام آية الله بهشتي وآية الله رفسنجاني بتأسيسه بعد الثورة، وإنما توجد جمعيات سياسية وتيارات وتكتلات يسميها النظام "أطياف سياسية".

      وإمكانية تشكيل الأحزاب واردة حيث أن الدستور لم يمنع قيامها، كما أن المسؤولين في السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية يرون أن من الضروري قيام أحزاب لها برامج محددة في إطار ولاية الفقيه.

أهم الجمعيات السياسية في إيران

  1. "جمعية روحانيت مبارز" "رجال الدين المناضلين" وتضم عدداً من علماء الدين الذين اشتركوا في الثورة ممن يمثلون الاتجاه المحافظ داخل الحوزة الدينية في قم، ولهم أنصار في جميع أنحاء إيران، ويحتل حجة الإسلام والمسلمين على أكبر ناطق ثوري منصب أمين عام الجمعية، و"آية الله عبد الحسين معزي" هو المسؤول السياسي، و"حجة الإسلام سيد رضا تقوى" المسؤول الثقافي، و"حجة الإسلام باهنر" هو مسؤول الاتصالات.
  2. "جمعية روحانيون مبارز" "علماء الدين المكافحين" وتضم عدداً من علماء الدين ممن لهم اتجاه ثوري اشتراكي، ولهم ثقل كبير في أوساط الشباب والطلاب والعمال والمرأة، وتقف الجمعية وراء رئيس الجمهورية خاتمي بعد أن رشحته وساندته في الانتخابات، ويحتل "آية الله مهدي كروبي" منصب أمين عام الجمعية، وللجمعية جريدة تتحدث باسمها هي جريدة سلام".
  3. "جمعية كوادر التعمير" "كاركزاران سازندكي" وقد أسسها ستة عشر مسؤولاً من أنصار الرئيس هاشمي رفسنجاني وهم: "عطاءالله مهاجراني" وزير الارشاد الإسلامي الحالي، "محمد هاشمي" شقيق رفسنجاني مساعد الرئيس خاتمي للشؤون التنفيذية حالياً، "رضا أمر اللهي" مساعد الرئيس ورئيس هيئة الطاقة الذرية حالياً، "مصطفى هاشمي طباً" مساعد الرئيس لشؤون التربية البدنية، "محسن نور بخش" رئيس البنك المركزي حالياً، "إسماعيل شوشتري" وزير العدل حالياً، "محمد علي نجفي" مساعد الرئيس لشؤون التخطيط حالياً، "عيسى كلانتري" وزير الزراعة حالياً، "أكبر تركان" رئيس هيئة الاستثمار حالياً وكان وزيراً للدفاع ثم وزيراً للطرق والنقل، "مرتضى محمد خان" كان وزيراً للاقتصاد والمالية، "سيد محمد غرضي" كان وزيراً للنفط ثم وزيراً للبريد والبرق والهاتف، "بيزن نامدا رزنكنة" وزير النفط الحالي، "غلا مرضا فروزش"، كان وزير الجهاد التعمير، "محمد رضا نعمت زاده" كان وزيراً للصناعة، "غلا مرضا شافعي" وزيراً الصناعة الحالي، "غلا محسين كرباسجي، رئيس مدينة طهران السابق، وللجمعية ثقل كبير بين جماهير الشعب في جميع المحافظات خاصة في أوساط الشباب والطلاب والمرأة.
  4. جمعية المؤتلفة الإسلامية: وقد قامت هذه الجمعية خلال الكفاح الثوري ضد الشاه وكان لها نشاط سياسي وعسكري معارض لنظام الشاه، وظلت بعد نجاح الثورة تمثل أحد أجنحة النظام، وتميل إلى الجناح المحافظ لعلماء الدين وقد تعاونت معهم كثيراً خلال الفترة الماضية، ولها ثقل سياسي بين تجار البازار والعامة، ويحتل "حبيب الله عسكر أولادي" منصب الأمين العام للجمعية.
  5. الجمعيات الإسلامية: وهي عبارة عن جمعيات صنفية مثل الجمعية الإسلامية للطلاب وتضم طلاب الجامعات من الإسلاميين ويرأسها "حشمت الله طبرزدي"، الجمعية الإسلامية للعمال، الجمعية الإسلامية للأطباء، الجمعية الإسلامية للمهندسين، جمعية زينب الإسلامية وهي جمعية نسائية، الجمعية الإسلامية للجامعيين وتضم أساتذة الجامعات والعاملين فيها من الإسلاميين، جمعية وعاظ طهران وتضم طلبة العلوم الدينية والوعاظ، جمعية النقابات الإسلامية للحرفيين والتجار، اتحاد الجمعيات الإسلامية للطلاب المغتربين، الجمعية الإسلامية للمعلمين، وهكذا...
  6. هيئة مجاهدي الثورة الإسلامية وتضم عدداً من المثقفين اليساريين الذين شاركوا في الثورة وكان لهم نشاط سياسي وعسكري ولهم علاقات قوية مع علماء الدين الإصلاحيين.
  7. حركة تحرير إيران وهي من الجمعيات التي شاركت في الثورة وشغلت مناصب عديدة في الحكومة المؤقتة ومجلس الثورة، ثم انتقلت إلى صفوف المعارضة رغم أن لها علاقات قوية بعدد من علماء الدين والمسؤولين في النظام، ويحتل "إبراهيم يزدي" منصب الأمين العام. وتضم عدداً من المثقفين الليبراليين المؤيدين لولاية الفقيه.

      في أوقات الانتخابات العامة مثل انتخابات الرئاسة أو انتخابات مجلس الشورى الإسلامي أو انتخابات مجلس الرقابة على القوانين أو انتخابات مجلس الخبراء أو انتخابات المجالس المحلية يتحالف عدد من هذه الجمعيات لتقديم قائمة من المرشحين يقفون وراءها مثل تكتل أنصار حزب الله بقيادة "روحانيت مبارز" ويضم عدداً من الجمعيات الإسلامية، كذلك تكتل أنصار خط الإمام بزعامة "روحانيون مبارز" ويضم جمعية المؤتلفة وكوادر التعمير وعدد من الجمعيات الإسلامية.

      تتفق هذه الجمعيات كلها على مبدأ ولاية الفقيه كأساس لنظام الجمهورية الإسلامية وتختلف حول أسلوب حركة النظام وأولوياته حيث يرفعون شعارات: التعمير والتنمية، العدالة الاجتماعية، الاقتصاد الحر، سيادة القانون والدستور، سياسة خارجية قوية وفعالة، حماية منجزات الثورة، ولكنهم يختلفون في ترتيبها كأولويات.

الرئيس سيد محمد خاتمي

      ولد حجة الإسلام والمسلمين الدكتور سيد محمد خاتمي سنة 1943 م بمدينة أدركان بمحافظة يزد في وسط إيران، وهو كما يقول عن نفسه ـ من أسرة دينية من الطبقة المتوسطة فهو ابن آية الله خاتمي أحد العلماء والمراجع الدينيين الكبار في حوزة قم الدينية، وقد اقتدى محمد خاتمي بوالده وسلك نفس طريقه، فأتم دراسته الابتدائية والإعدادية في أدركان ثم ذهب إلى قم لاستكمال تعليمه الديني سنة 1961 م وانضم إلى الطلاب الثائرين من تلامذة الخميني، ثم التحق سنة 1965 م بجامعة أصفهان لدراسة الفلسفة مع استكمال تعليمه الديني في حوزة أصفهان الدينية، واشترك في تأسيس خلية ثورية للإسلاميين في أصفهان، ثم ذهب إلى طهران سنة 1969 م مجنداً تجنيداً إجبارياً في الجيش، وهناك التحق بجامعة طهران للحصول على درجة الماجستير في الفلسفة، ورفض منحة حكومية لإتمام دراسته في الخارج سنة 1971 م وفضل العودة إلى قم لإتمام دراسته الدينية، وهناك تتلمذ على يد "آية الله مرتضى مطهري" وأصبح صديقاً لحجة الإسلام أحمد الخميني، واشترك مع ابن الخميني في توزيع المنشورات وأشرطة التسجيل الخاصة بالخميني وترويجها وإصدار البيانات المؤيدة للثورة، حتى أصبح أحد المسؤولين الإعلاميين للثورة حتى سنة 1978 م حيث سافر إلى ألمانيا في نفس السنة بناء على اقتراح آية الله بهشتي لكي يتولى إدارة المركز الإسلامي في هامبورج بألمانيا، وكان من أنشط المراكز خلال فترة وجود الخميني في باريس خاصة في مجال التنسيق الفكري والسياسي والاجتماعي للثورة في الخارج، نجح خاتمي في انتخابات أول مجلس للشورى الإسلامي عن دائرة "اردكان"، عينه الخميني مديراً لمؤسسة "كيهان" الجريدة"، ثم اختاره المهندس مير حسين موسوي وزير للثقافة والإرشاد نفس المنصب واستمر فيه ثلاث سنوات أخرى حتى اختاره مستشاراً لرئيس الجمهورية ورئيساً للمكتبة الوطنية وعضواً في المجلس الأعلى للثورة الثقافية، خلال ذلك استمر في التدريس في جامعة إعداد المعلم أستاذاً للفكر السياسي والفلسفة والمنطق، وقام بنشر العديد من المقالات وأصدر عدداً من الكتب أهمها: "خشية الأمواج" (بيم موج) و"من دنيا المدينة إلى مدينة الدنيا" (ازدنياي شهر به شهر دنيا) وهما حول الفكر السياسي الغربي وترجم الأول للغة العربية في بيروت وتتم ترجمة الكتاب الثاني حالياً.

      وهكذا أتيحت الفرصة لخاتمي أن يحصد تجارب كثيرة من خلال والده كأحد علماء الدين الكبار، وأستاذه الخميني، وأستاذه مرتضى مطهري أحد منظري الثورة، وصديقه "بهشتي" أحد منظري الثورة أيضاً، وصديقه أحمد الخميني سر أبيه، ورئيسه رفسنجاني الذي استقطبه ليكون مستشاره وأحد أهم أعوانه بعد أن اختبره في مجال الفكر والثقافة، ويؤكد خاتمي أنه ينزل إلى الساحة السياسية من خلال عباءة رفسنجاني حيث كتب في لافتاته الانتخابية أنه مستشار الرئيس رفسنجاني، ويقول عن حكومته: "إن الحكومة سوف تتميز بميزة كبيرة لأنها ستحصد تجارب وخبرات حكومة الرئيس رفسنجاني التي أتمت الخطة الخمسية الأولى وبدأت الثانية وسهلت المهمة علينا في إتمامها، ولقد تمت أعمال عظيمة قادتها شخصية الرئيس رفسنجاني العظيمة التي استطاعت أن تقدم لنا تجربة طيبة وتمهد لنا الكثير من الطرق، ولقد شاركت فيها بقدر، ومن البديهي أن كل من يأتي بعده ينبغي أن يترسم خطاه ويستفيد من هذا الكنز العظيم".

      وتعتبر النشأة الدينية لخاتمي والتحاقه بالحوزة الدينية تأصيلاً لفطرته وارتباطها بالفكر الديني، ويمثل التحاقه بالجامعة تكويناً للمنهج العلمي الحر في إطار الانضباط الفكري، في حين يمثل التحاقه بالجيش مع نشاطه الثوري الاتجاه العملي لفكره السياسي، كما أن رفضه منحة الدراسة في الخارج رفض للتخلي عن مثلث فكره القومي، وقد تابع هذا المثلث في تطبيقاته العلمية فاتجه للجهاد في صفوف علماء الدين المناضلين، واستكمل بحوثه الفقهية في الحوزة الدينية، وظل يحاضر في الجامعة، فضلاً عن الخبرة الإدارية التي اكتسبها في إدارة المركز الإسلامي بهامبورج بألمانيا والذي جعله من أنشط مراكز التجميع والدعوة والتنسيق الفكري والسياسي والاجتماعي للثورة الإسلامية في الخارج.

      يعتبر كتابه "خشية الأمواج" عنواناً على شخصيته المتوازنة وفكره العقلاني الذي يفرق بين الجمود والاندفاع وبين المحافظة والتطرف، ويتخذ طريقاً وسيطاً يتفادى به الأمواج، أما كتابه "من دنيا المدينة إلى مدينة الدنيا" فيدحض فيه الأسس التي يقوم عليها كل من الفكر الماركسي والفكر الليبرالي، ويؤكد من خلال ذلك على قيمة الفكر الإسلامي وتعاليه فوق الليبرالية والماركسية.

الثوابت والمتحولات في فكر خاتمي

      أولاً: فكرة محورية الإنسان وحريته حيث يرى خاتمي أن الإنسان هو محور الكون لتميزه بثلاث ميزات لم تجتمع في غيره من الكائنات وهي المادة والروح والإدارة، ويؤكد خاتمي أن التقوى أساس إنسانيته وعظمته وكرامته، وأن غاية التقوى الفلاح، والفلاح نوع من الحرية النفسية، فالتحرر من سلطة الهوى والقوى المادية، والتحكم في الميول والرغبات النفسية هو نتيجة طبيعية للتقوى، والتقوى تحقق الفلاح. هذا المنظور الديني في رأي خاتمي يتعارض تعارضاً أساسياً مع الرؤية الليبرالية التي تقوم على معرفة الوجود والتي تهتم بالحرية  التي لها حدود هي حرية الآخرين، في حين أن المنظور الديني للحرية يعتبر الإنسان ذا بعد معنوي له قيم معنوية وأخلاقية أصيلة، وأن سعادة الإنسان تكون بتنميتها.

      ثانياً: ولاية الفقيه ولاية عامة للجميع: حيث يرى خاتمي أن محور النظام الذي أفرزته الثورة الإسلامية هو ولاية الفقيه، وأن إسلامية النظام تتضمن وجود الولي الفقيه كمحورها أيضاً، وفي هذا النظام يوجد زعيم هو زعيم للجميع أي جميع الأفراد الذين قبلوا هذا النظام بمعنى أنه زعيم الأقليات الدينية أيضاً أي زعيم الشيعة والسنة معاً، وليس زعيم اتجاه خاص، فكل من قبل هذا النظام عليه أن يقبل الزعيم أيضاً، وفي هذا الإطار فكل من قبل النظام يحسب داخل النظام ويقول رأيه وكلمته داخل النظام، ومن البديهي أن أكثر الناس إيماناً وأعظمهم اعتقاداً تزداد مسؤولياتهم تجاه النظام، وبهذا يصبح شعار النظام هو: المنافسة والتنوع داخل النظام، والاتحاد والانسجام في مواجهة ما هو خارج النظام.

      ثالثاً: التقنين أساس التقدم: حيث يؤمن خاتمي أن الدستور هو نتاج اتفاق عام بين جميع القوى التي شاركت في الثورة الإسلامية على أصول وأسس وأهداف وشكل النظام الحالي، ومن ثم فإن الدستور هو عامل الوفاق الوطني وأن على الجميع الاجتهاد في أداء وتنفيذ الحقوق والواجبات المدونة فيه، وأن أهم مسؤوليات رئيس الجمهورية هو أن ينفذ مواد الدستور خاصة فيما يتعلق بحقوق المواطنين، ويؤكد خاتمي أن استقرار النظام الدستوري الذي هو محصلة الثورة من الأمور الهامة التي ينبغي أن تؤخذ بجدية بحيث يدار المجتمع من خلال برنامج واقعي يهدف إلى حل المشكلات الأساسية للبلاد من خلال الموازين والأسس، هذا البرنامج تتعاون السلطة التنفيذية مع السلطة التشريعية في تدوينه وإقراره ومراقبة تنفيذه، ورئيس الجمهورية ليس مطلق الصلاحيات، فمجلس الشورى الإسلامي مظهر حكم الشعب، والحكومة قطب يدار المجتمع من خلاله، ومن الضروري أن تدور المؤسسات الاجتماعية في فلك هذا القطب، ومن الضروري تقنين وتحديد المسؤوليات لكافة الأجهزة في السلطات الثلاث التي يتضمنها النظام لأن هذا يساعد على استقرار النظام وحفظ منجزاته وتحقيق أهدافه ومصالحه العليا، ومن الضروري أيضاً تدوين الاتجاهات المتنوعة للهيئات السياسية في لائحة تحفظ حيثيتها وكيانها وتحقق النمو السياسي للمجتمع، ويعتبر خاتمي أن أهم رسالة لرئيس الجمهورية هي أن يحول النظام الإسلامي إلى مؤسسات وأن يقيم مجتمعاً على أساس الدستور ويقبل الدستور باعتباره أساس البنية السياسية للنظام.

      رابعاً: التنمية هي القضية الأساسية: حيث يرى خاتمي أن التعمير والتنمية في جميع أبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية هي القضية الأساسية لإيران، وينبغي أن تستمر حركة التنمية بجدية وقوة لأن هذه الحركة هي الضامن لإقامة حياة كريمة وشريفة ليس للجيل القادم فحسب بل لجيل الثورة أيضاً، على أن تتم التنمية بالاعتماد على المصادر الداخلية، وإعطاء أهمية لدور القوى البشرية والبنية الإدارية والمالية، ويؤمن خاتمي بضرورة إتاحة الفرصة ووضع الإمكانات لكل من لديه استعداد للمشاركة في عملية التنمية، وتكملة الخطة الخمسية الثانية من خلال فكر تخطيطي وأحياناً نقدي، وتدوين الخطة الخمسية الثالثة بشكل أكثر كمالاً ونضجاً، ويؤكد خاتمي أن العدالة الاجتماعية ليس لها معنى في مجتمع فقير، وأن التنمية هي قاعدة العدالة، كما يؤكد خاتمي على ضرورة دعم نصيب العامل في عملية الإنتاج، ورفع مستوى الوعي والتدريب وزيادة دوره في عملية اتخاذ القرار، ويرى خاتمي تسليم معظم المصانع ومراكز الإنتاج للقطاع الخاص على أن يكون قانون العمل هو منظم العلاقة بين العامل وصاحب العمل.

      وتمثل الإدارة المتحول الأول في فكر خاتمي حيث يعتقد أن بقاء النظام واستقراره وقوته مع تمسكه بالثوابت رهن بتجاوبه مع المستجدات من خلال فكر مفتوح تنظمه الثورة الثقافية في تعاون بين الحوزة الدينية والجامعات، بمعنى أن النظام يقوم على نوع من الفلسفة السياسية التي تقوم على ركنين: الأول: هو اختيار المسؤولين على كافة المستويات، وقبولهم المسؤولية تجاه القواعد الشعبية، والثاني أن الحكومة فضلاً عن إدارتها للمجتمع والمحافظة على رضاء الناس عنها توجه المجتمع من الواقع إلى الوضع الأمثل حيث يكون لقيادة النظام الدور الأساسي. ويسعى خاتمي للدفع المستمر بالعناصر الشابة، والاستفادة من العنصر النسائي لتزكية التحول.

      أما المتحول الثاني في فكر خاتمي فيتمثل في العلاقات الدولية، فرغم إيمان خاتمي بضرورة وجود إيران المتقدمة والمستقلة في نسيج المجتمع الدولي باعتباره رغبة كل الإيرانيين وتأكيده على أسس هذا الوجود الثلاثة وهي العزة والحكمة والمصلحة إلا أنه يرى أن العلاقات العادلة على المستوى العالمي لا تتحقق إلا من خلال السياسة المتحولة في مواجهة المتغيرات الدولية، وأن التعاون مع دول الجوار والدول الإسلامية والدول غير المنحازة هو الوسيلة الفعالة للدفاع عن الحقوق المشروعة لهذه الدول.

وقد صدقت ليلا خاتمي ابنة الرئيس عندما وصفت والدها بكلمة واحدة هي أنه "مفكر حر".

حكومة الرئيس خاتمي

      قام خاتمي فور نجاحه في انتخابات الرئاسة بتشكيل عدد من اللجان لتساعده في اختيار الحكومة ووضع برامجها وأسند رئاسة كل منها لمن يثق في تناغم فكرهم مع فكره فأسند رئاسة لجنة القوى البشرية لأخيه "رضا خاتمي"، ولجنة التخطيط لصديقه "باقريان" ولجنة الإعلام لتلميذه "أمين زاده"، ولجنة الاختيار والشؤون العامة لمدير حملته الانتخابية "مرتضى حاجي"، ولجنة الزراعة للخبير "حسين نصيري"، ولجنة الطاقة للخبير "محمد رحمتي"، ولجنة الاقتصاد المالية للأستاذ "مظاهري"، ولجنة شؤون مجلس الشورى للدكتور "معين زاده"، ولجنة القضايا الأساسية للمهندس "حبيب الله بيطرف". وكلف خاتمي هذه اللجان باستطلاع رأي الجماعات السياسية وتلقى الاقتراحات سواء ما يتعلق بتشكيل الحكومة أو ببرنامج عملها، والالتقاء بالجماهير وقياس رأيهم، ودراسة هذا كله ومناقشته معه، وهكذا استطاع خاتمي أن يكون لنفسه رؤية ممتدة إلى جميع القطاعات، ابتداء من قوى الضغط والتأثير وانتهاء بالطبقات المحرومة والشباب، ثم فاجأ الجميع بحصوله على الثقة لجميع وزرائه من مجلس الشورى الإسلامي مما يشير إلى إجادته لفن المناورة السياسية وكفاءته في إدارة الحوار والتخطيط وحسن انتقاء العناصر المعاونة.

      لقد كان الاعتبار الأول في فكر خاتمي عند اختياره وزراءه للخبرة والتخصص، وكان الاعتبار الثاني للتوافق الفكري أما الاعتبار الثالث فكان تحقيق المعادلة الصعبة بين إرضاء القيادات المخططة كالزعيم وآية الله رفسنجاني وبين الجماعات السياسية ومطالب الجماهير والفئات التي دعمته في ترشيحه وانتخابه للرئاسة، وكان الاعتبار الرابع إفساح المجال في القيادة والتنفيذ للشباب والمرأة.

      وقد انعكس هذا الفكر أولاً في اختياره لمعاونيه، "فحسن حبيبي" المساعد الأول للرئيس والمنسق لمجموعة مساعديه ومستشاريه لديه خبرة إدارية كبيرة وأسلوب ثوري ومكانة اجتماعية وسياسية، "ومحمد هاشمي" شقيق رفسنجاني وموضع سره، "ومحمد علي نجفي" له خبرة كبيرة في التخطيط، و"معصومة ابتكار" ممثلة للمرأة ونموذجاً للمرأة الثورية المثقفة، وكذلك "موسوي لاري" عالم الدين الخبير بالقانون و"هاشمي طباً" الخبير بالتربية البدنية.

      ومن الواضح في اختيار خاتمي لقائمة وزرائه أنه لم يجامل أهل الثقة على حساب أصحاب الخبرة، كما أن جميع الوزراء بلا استثناء يميلون إلى الموضوعية في الفكر والثبات في النظرة والثورية في السلوك، فضلاً عن أن خاتمي قد اختار من بين التيار المحافظ بعض وزرائه من أصحاب الخبرة مثل دري نجف آبادي وزير المعلومات الذي اضطر إلى تغييره إزاء تشدده الذي أدى إلى أزمة ضرب المثقفين.

      ويمكن أن نلاحظ من برنامج عمل وزراء المجموعة الاقتصادية حرص الرئيس خاتمي على إعادة النظر في هيكلة الاقتصاد الإيراني والموازنة العامة وتحديد أطر القضايا والمسائل الاقتصادية، وتحديد مائدة تنظيم السياسات الاقتصادية ومعالجة المشكلات الناتجة عن هذا التنظيم ومعالجة التضخم، والاستمرار في عملية فصل النفط عن الاقتصاد، مع محاولة تحقيق طفرة في مجال الزراعة والثروة الحيوانية، ويبدو أن إلغاء وزارة الصناعات الثقيلة يعني اتجاه خاتمي للتركيز على الصناعات الصغيرة والوسيطة من خلال مؤسسات تعاونية أو شركات مساهمة، فضلاً عن دعم صناعة التعدين والبتروكيماويات.

      ويمكن ملاحظة أن وزارة خاتمي وزارة متوازنة تدعمها الخبرات حيث تضم سبعة وزراء من الحاصلين على درجة الدكتوراه، ووزيرين من الحاصلين على درجة الماجستير في مجالات مناسبة لعملهم، وثمانية وزراء من المهندسين، ووزيرين من الحاصلين على شهادات جامعية متخصصة، وثلاث من الحاصلين على الإجازة العالية من الحوزة الدينية، فضلاً عن أن متوسط سن الوزراء 46 سنة وهو أقل من الوزارات السابقة.

      وإزاء الدعم الجماهيري الذي حصل عليه خاتمي فقد أنشأ مكتباً من أجل استمرار الاتصال بالجماهير وحث وزراءه على إنشاء مكاتب مماثلة حتى يصل صوت الجماهير إلى المسؤولين مباشرة.

سياسة إيران الخارجية في عهد خاتمي

      منذ أعلن هاشمي رفسنجاني في الثامن عشر من شهر يوليو سنة 1988 م قبول إيران لقرار مجلس الأمن رقم 598 بوقف الحرب العراقية الإيرانية بدأت ملامح السياسة الخارجية لإيران تتغير في اتجاه المهادنة ثم المرونة ثم التعاون وصولاً إلى الاستقرار الذي ينشده النظام الحاكم في إيران من أجل الاستمرار في الحكم وتحقيق التنمية حيث قام النظام منذ ذلك الوقت بسلسلة من التغييرات الأساسية في الهيكل العام لأجهزة الحكم واستراتيجيتها العامة وقد تحددت ملامح هذه التغييرات من خلال الرسالة المطولة التي بعث بها آية الله الخميني إلى الحكومة والتي جاء فيها قوله: "ليس خافياً على أحد من المسؤولين أو المواطنين أن قوام جمهورية إيران الإسلامية ودوامها يقوم على مبدأ سياسة اللاشرقية واللاغربية وأن العدول عن هذه السياسة سوف يكون خيانة للإسلام والمسلمين وسبباً في زوال استقلال البلاد وعزة شعب إيران".

      وقد بدأت التغييرات بإعادة النظر في الدستور وإدخال التعديلات اللازمة عليه من خلال لجنة موسعة شكلها الخميني في 24 / 3/ 1989 م، وكان لإعلان وفاة الخميني في هذه الظروف أكبر الأثر في السير قدما وبخطوات واسعة نحو التغيير، فتم اختيار زعيم للبلاد من المجتهدين وليس من المراجع وهو حجة الإسلام سيد علي خامنه اي في نفس اليوم (4 / 6/ 1989م) ويمكن القول أن التغيير قد شمل ولاية الفقيه بعد الخميني حيث كانت أبعادها وواجباتها وصلاحياتها ونفوذها في عهد الخميني أمراً استثنائياً لن يعود إلى سابق عهده على يد غيره، وكان تولي حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني رئاسة الجمهورية في إيران عاملاً أساسياً في استمرار عملية التغيير فقد بدأ خطابه الأول في تقديم أعضاء حكومته إلى مجلس الشورى الإسلامي بقوله: "إنها نقطة تحول" وقد شهدت فترة رئاسة رفسنجاني التي امتدت ثماني سنوات مرحلة الانتقال من الثورة إلى الدولة وقد استتبعت كثيراً من التغييرات سواء على مستوى النخبة أو السلطة الحاكمة أو القوانين أو السياسات، وحتى على الممارسة الفعلية في حركة النظام داخل إيران وخارجها، وقد انعكس هذا على أهداف وتوجهات السياسة الخارجية لإيران، حيث سحب رفسنجاني "علي محمد بشارتي" أحد قادة الحراس من منصب نائب وزير الخارجية وعينه وزيراً للداخلية وعين شقيقه محمد هاشمي بدلاً منه، وقد كان للدكتور علي أكبر ولايتي وزير الخارجية،آنذاك، فضل لا ينكر في تغيير السياسة الخارجية الإيرانية إزاء اعتداله وإيمانه بفكر المعتزلة في إطاره الشيعي وتطبيقه على نفسه وعلى أسلوبه في الإدارة وعلى مواقفه السياسية، ويتبلور هذا الفكر في النظرية التي استحدثها المعتزلة بإخراج مرتكب الكبيرة إلى منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر فعندما كان الدكتور ولايتي يواجه ضغوطاً في المرحلة الأولى للتخلي عن هذه الفكرة كان يجمدها عملاً بمبدأ التقية السياسية، وقد تجلى ذلك في موقفه من تكفير نظام الحكم العراقي خلال الحرب العراقية الإيرانية عندما أعلن الخميني أنه لا سلام بين الإيمان والكفر حيث كان ولايتي يطرح فكرة في شكل بحوث حول المعتزلة من خلال مجلة السياسة  أو تقرير مركز البحوث السياسية والدولية بالوزارة أو من خلال الصحف اليومية والأحاديث والمؤتمرات الصحفية، وقد أبان الدكتور ولايتي بوضوح عن فكره السياسي منذ تولي رفسنجاني شؤون الحكم حيث نجح في أن يدمج نظرية المعتزلة في تقييمه للاستكبار مع فكرة التقية السياسية في التعامل مع الاستكبار مما أعطى لحركة ولايتي السياسية ثقلاً وأفسح لها إطاراً أكبر من الحرية إلى الحد الذي اعتبره الزعيم خامنه اي قدوة للشخصية السياسية المسؤولة والمتدينة والملتزمة بالأحكام الإسلامية ومبادئ الثورة الإسلامية.

      ويرجع لولايتي الفضل في تغيير سياسات النظام تجاه الاستكبار العالمي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان العداء تجاهها لدى المسؤولين الإيرانيين بمثابة مبدأ أصيل ودائم في الاستراتيجية الإيرانية يدعمه موقف أصولي للثورة الإسلامية منذ قيامها ويحركه كراهية دفينة لممارسات الولايات المتحدة تجاه إيران قبل الثورة وبعدها، وكان الخميني مؤسس النظام قد جعل العلاقات مع الولايات المتحدة صراعاً لا يقبل المصالحة في جميع أبعاده الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية حتى أنه اعتبر احتلال الطلاب الإيرانيين للسفارة الأمريكية في طهران ثورة أكبر من الثورة الأولى. وقد تابع النظام الإيراني من بعده هذه الاستراتيجية تجاه بروز القوة الأمريكية في إطار النظام العالمي الجديد إلا أن تغيير السياسة  بقيادة رفسنجاني وولايتي أدى إلى إغماض العين عن نفوذ أو تسلل رؤوس الأموال الأمريكية أو الشركات الاستثمارية الأمريكية إلى إيران ورغم مواجهة الحكومة الإيرانية لضغوط كبيرة من داخل النظام ورموزه فقد تم افتتاح فرع لشركة الكوكاكولا الأمريكية في طهران ودعوة عدد من الصحفيين والإعلاميين الأمريكيين لحضور افتتاحه وقد رد رفسنجاني على الانتقادات التي وجهت للحكومة بسبب ذلك بقوله: "من المعروف أن الصحافة الأمريكية تهاجم إيران كثيراً ولكن دعوة مثل هؤلاء الصحفيين سوف ترد على هذا الهجوم فليس كل صاحب قلم في الولايات المتحدة من عملاء الاستكبار، أما فيما يتعلق بالتجارة مع الولايات المتحدة فنحن لم نتخذ قراراً حتى الآن بقطع هذه التجارة ولا نرى أن هذه المقاطعة عملاً صحيحاً فيجب أن نعلم أن معظم تجهيزاتنا العسكرية كانت أمريكية، وكثير من المصانع والماكينات الغالية أمريكي ونحن في حاجة إلى قطع غيار لها فهل نهمل هذه الاستثمارات الكبيرة؟ هذا ليس منطقاً صحيحاً وعندما يتسع حجم التجارة توجد بعض السلبيات وليس من الصحيح أن تحركنا الحساسيات وإن القول بأن إدخال شركة الكوكاكولا فيه رمز قول عامي إلى حد كبير".

      وهكذا يمضي التحول في السياسة الخارجية الإيرانية مستنداً إلى مبدأ التقية السياسية، ويفسر الكاتب محسن شهيدي هذا التحول بقوله: "لا ينبغي أن تكون سياستنا سياسة خلق أعداء". وفي إطار هذا التحول سارع النظام الإيراني إلى مد جسور اللقاء مع عدد من الدول التي كان يعتبرها عدواً للثورة خاصة في أوربا، كما وجد في انهيار الاتحاد السوفيتي فرصة للقاء والتعاون مع الجمهوريات المستقلة عنه فسارع إلى طرح الصلات التاريخية والمشتركات التراثية والثقافية والعرقية واللغوية مع الجمهوريات الإسلامية ولم تعبأ إيران بمعوقات التعاون مع هذه الدول ومضت في ممارسة التمدد داخل هذه البلاد بكل الوسائل المتاحة وقد حققت بعض النجاحات في هذه السياسة توَّجها مشروع إحياء طريق تجارة الحرير القديم ليكون حلقة الوصل بين منطقتي الخليج والشرق الأوسط وبين آسيا الوسطى وأوربا.

      ولا شك أن متغيرات القوة العربية في المنطقة بعد حرب الخليج الثانية قد أتاحت فرصة كبيرة للنظام الإيراني ليخرج عن عزلته التي فرضتها عليه الحرب العراقية الإيرانية عن المنطقة وأن يستفيد من الموقف فيمد جسور العلاقات إلى الدول العربية في الخليج وفي العالم العربي بما فيها بعض الدول التي لم تكن علاقته طيبة معها، وأن يصبح صاحب رأي في أي طرح لمشروع يتعلق بأمن الخليج، كما استطاع أن يكسب عناصر ضغط مؤثرة ضد العراق في تفاوضه معه حول أسرى الحرب وشيعة الجنوب والطائرات العراقية اللاجئة إلى إيران، كما استطاع أن يدعم علاقاته في مجالات قوية مع عدد آخر مثل السودان واليمن، وقد لخص رفسنجاني حركة السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة بقوله: "إننا سنكون أحد عوامل الاستقرار في المنطقة وليست لنا أية نظرة سوء تجاه جيراننا بأي وجه من الوجوه". كما عبر الدكتور محمود محمدي المتحدث باسم وزارة  عن هذا التحول الإيراني بقوله: "لم تكتف سياسة جمهورية إيران الإسلامية خلال السنوات العشرة الماضية بالاهتمام بالأمن القومي والإقليمي فحسب بل جعلت العالم الإسلامي كله من أولويات اهتمامها وحافظت على علاقاتها بسائر المناطق الجغرافية بشكل يتناسب مع الضرورة والظروف الدولية وقد لعبت الحكمة والمصلحة دوراً أساسياً في سبيل تحقيق الأهداف السياسية".

      ولا شك أن ثبات واستقرار حكومة الرئيس رفسنجاني والقوة والمكانة التي اكتسبتهما خلال فترة رئاسته الثانية من توالي الإنجازات التي حققتها سواء على مستوى السياسة الداخلية أو السياسة الخارجية مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية لوقف التمدد الإيراني بتبني سياسة الاحتواء المزدوج للعراق وإيران وقد عبر الدكتور ولايتي عن ضيق حكومته بهذه السياسة الأمريكية بقوله: "إن هؤلاء الذين يدعون أن الجهود التي تبذلها إيران في أفغانستان وتاجيكستان ولبنان وفلسطين وشبه قارة الهند باكستان وبنجلادش والهند وكشمير وسيريلانكا والبوسنة وقره باغ والقفقاز ليست إلا من أجل خلق الأزمات والتسبب في المشاكل إنما يريدون أن يوجدوا اتجاهاً يستطيعون من خلاله ممارسة ضغوطهم على جمهورية إيران الإسلامية، إن سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران تبدو معقدة وإن الأمريكيين يفعلون كل شيء ضد إيران ثم يدعونها للحوار، إن الأمريكيين يدفعون إيران إلى التسليم بالضغط عليها أو بالمقاطعة أو الدعاية والحصار والتحجم ولكن هذا يمثل خطأ استراتيجياً يشير إلى سلبيات السياسة الأمريكية تجاه إيران".

      لقد أثبتت أحداث المعركة الانتخابية التي دارت بين الاتجاهات المختلفة التي يتزعمها رموز النظام الحاكم في إيران من أجل صياغة مجلس نيابي جديد في دورته الخامسة أن رياح التغيير قد اشتدت وأن النظام الحاكم في مواجهة هذه الرياح القوية المتعددة الاتجاهات عليه أن يهيء نفسه لقبول التغيير من خلال إعادة صياغة لهيكل النظام وسياساته وربما استراتيجيته حتى يضمن لنفسه البقاء والاستمرار في حكم إيران وإن إلحاح قيادة النظام على التمسك بولاية الفقيه ورفع شعارات الثورة الإسلامية ومنجزاتها في مواجهة الدعوات القوية المتلاحقة لفصل الدين عن السياسة وترجيح الاتجاه الليبرالي على الاتجاه الراديكالي لا يعني أن القيادة ترفض التغيير أو أنه ليس لديها الاستعداد لعملية التغيير وإنما الإصرار على بقاء نظام ولاية الفقيه بمبادئه وأركانه الأساسية يستهدف أن يتم التغيير من خلال عباءته، وقد تجلت في أحاديث القيادات وردود فعلها تجاه التغيير ملامح أساسية لإعادة صياغة شكل النظام إذا قيست على مربع الشخصية الإيرانية القومية يتضح بجلاء أن النظام الإيراني قد قبل أن يتحول إلى الثبات والاستقرار والتجاوب مع ظروف ومتطلبات العصر وأن هذا القبول قد أعلن عن نفسه بوضوح مع بداية الاستعداد لانتخابات رئاسة الجمهورية وتجمع الجماعات السياسية في تكتلين رئيسيين لكل منهما رؤية ووجهة نظر تخالف الآخر غير اتفاق وحيد على أن سياسة الإعمار التي اتخذها هاشمي رفسنجاني هي السياسة المثلى التي ينبغي أن تحتذي في الفترة القادمة.

      وكان الزعيم آية الله خامنه اي قد كشف بقراره إعادة تنظيم وتشكيل مجمع تحديد مصلحة النظام في إطار إعادة ترتيب البيت الإيراني في المرحلة القادمة التي من المتوقع أن تمتد خمسة وعشرين عاماً أخرى إلى 1400 هـ. ش (2022 م) عن أهم ملامح التغيير المتوقع في إيران خلال هذه المرحلة وأهمها أن يصبح رفسنجاني مساعداً أساسياً وتنفيذياً ومستشاراً للزعيم ورئيساً لمجمع تحديد مصلحة النظام باعتباره الجهاز الاستشاري للزعيم والحكم بين السلطات الثلاث وأن يصبح سيد محمد خاتمي صاحب الشعبية الكبيرة في أوساط اليسار والوسط الإسلامي والشباب والمثقفين والمرأة رئيساً للسلطة التنفيذية بينما يبقى علي أكبر ناطق نوري زعيم اليمن الإسلامي على رأس السلطة التشريعية ويبقى محمد يزدي على رأس السلطة القضائية وذلك لتحقيق التوازن الضروري لمسيرة النظام بين اليمن والوسط واليسار وعلى المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي مما ينعكس على السياسة الخارجية لإيران في المرحلة المقبلة.

      وقد أكد الرئيس الإيراني سيد محمد خاتمي في أول حديث رسمي له فور أدائه اليمن الدستورية أمام البرلمان أن مهمته الأساسية تتمثل في تثبيت سيادة القانون والدستور ولا شك أن هذا الأمر يشير إلى التوجه الجديد للحكومة الإيرانية الحالية لأن نظام الثورة كان قد استحدث العديد من الأجهزة والهيئات والمؤسسات الرسمية والشعبية والثورية التي طالما تداخل عملها مع عمل الحكومة وعاقت تنفيذ القوانين وصارت عنصر ضغط على الحكومة ومثار خوف للمواطنين وإزعاجاً للدول المجاورة كما أدت إلى تضارب القرارات وتعويق التنمية والإصلاح وإضعاف القدرة على التواصل مع دول الجوار والمنطقة إزاء الشك في مصداقية الحكومة على تنفيذ تعهداتها فضلاً عن التصدير غير المنظم أو العنيف للثورة الإسلامية خارج سيطرة الحكومة، ومن هنا فإن تثبيت سيادة القانون يحدد صلاحيات ومسؤوليات الوزارات والأجهزة المختلفة ويدعم التنسيق بينها ويؤكد اقتران العدالة الاجتماعية بالتنمية ويحقق دعم حرية الرأي والنقد وعرض الأفكار والمقترحات ويعطي أهمية للصحافة والإعلام والمشاركة الجماهيرية ويرفع مستوى الديمقراطية في هذه المرحلة، وقد ساعد هذا التوجه من جانب رئيس الجمهورية على اختيار حكومة متوازنة أرفع مستوى من الحكومات السابقة حيث تضم سبعة وزراء من الحاصلين على درجة الماجستير في مجالات مناسبة لعملهم وثمانية وزراء من المهندسين ووزيرين من الحاصلين على شهادات جامعية وثلاثة من الحاصلين على الإجازة العالية من الحوزة الدينية وإزاء الدعم الذي حصل عليه رئيس الجمهورية في الانتخابات من الجماهير فقد قرر استمرار الاتصال بهم حيث أنشأ مكتباً لهذا الغرض وحث وزراءه على إنشاء مكاتب مماثلة بالإضافة إلى سعي الحكومة لتهيئة السبل من أجل قيام أحزاب سياسية حتى يكون الاتصال الجماهيري بالحكومة اكثر تنظيماً، ومع توجه الحكومة إلى توفير الأمن للجميع سواء كانوا من أنصار النظام أو معارضيه من خلال تعيين ثلاثة من علماء الدين لوزارات الداخلية والمعلومات والعدل عمل النظام على نشر ثقافة احترام القانون والنظم الاجتماعية وقيم الثورة، وتعتبر هذه التوجهات الإدارية والأمنية بنية أساسية طيبة لمناخ ثقافي تحكمه الرغبة في المحافظة على الاستقلال والهوية الثقافية وإعادة بناء الروح المعنوية ودعم التنمية الثقافية، ومع وجود مجموعة اقتصادية قوية وخبيرة في الحكومة يتضح التوجه الاقتصادي والرغبة في الاستقرار والتنمية الجادة من أجل اللحاق بركب النمور الأسيوية، ومع رفع شعار الإنتاج المؤثر لمجموعة وزارات الخدمات تتأكد الجدية في التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر والبطالة، ولا شك أن هذه التوجهات كلها لا بد وأن تنعكس على السياسة الخارجية للحكومة الجديدة حيث يصبح تحقيق الاستقرار والأمن والسلام والاندماج في القرية الكونية والمجتمع الدولي وسيلة أساسية لتقوية العلاقات الاقتصادية التي هي مفتاح رئيسي لعملية التنمية المنشودة في إيران.

      ويتمثل التركيز على التنمية باعتبارها السبيل المضمون لعدم تعرض النظام الإيراني للهزات في أن خاتمي في اختياره مجموعته الاقتصادية لم يجامل أهل الثقة على حساب أصحاب الخبرة وكذلك في خطته الاقتصادية التي قدمها إلى مجلس الشورى الإسلامي مع الموازنة العامة للدولة حيث تؤكد على المضي قدماً في عملية فصل وزارة التجارة عن البازار ووقف تدخل تجار البازار في السياسة التجارية للدولة مع إنشاء جهاز للرقابة والتحكم في التجارة الداخلية لخدمة التجارة الخارجية ودعم المناطق الحرة.

      ولا شك أن اختيار خاتمي للدكتور كمال خرازي ليكون وزيراً للخارجية يأتي مدعماً لهذا التحول حيث درس خرازي في الولايات المتحدة الأمريكية وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة هيوستون وعمل مندوباً لإيران في الأمم المتحدة منذ سنة 1989م وهو بهذا يصبح عنصراً فعالاً في حركة السياسة الخارجية لإيران في اتجاه الواقعية في التعامل مع الآخرين.

      وهكذا يتضح أن ما يحدث في إيران الآن هو محاولة لتصحيح أخطاء نجمت عن اندفاع الثورة في اتجاهات غير متوازنة جعلتها تفقد مصداقيتها كحركة ترفع شعارات ثورية وإسلامية تداخلت فتحول مرض التقية الذي تفشى في الشخصية الإيرانية إلى تقية سياسية في التعامل مع شعوب وحكومات المنطقة والعالم، ولا شك أن تثبيت وتعميق سيادة القانون والدستور في إيران يساعد على تعميق فكرة الاحترام المتبادل لسيادة الدول على أراضيها ويقبح التدخل في الشؤون الداخلية للغير ويكبح جماح الطموحات غير المشروعة ويدعم النظرة الواقعية للظروف والأحداث، كما أن المحافظة على التوجه الإسلامي للنظام مع تنقيته من شوائب الجبر والعنف وعلى الأسلوب الثوري في العمل مع تحجيمه بالقانون أمر يبعث على الاطمئنان لسلوكيات النظام بمؤسساته وأفراده ويؤكد مصداقية التعهد بقيم الثورة الإسلامية دون تقية سياسية ويكفل وضوح معطيات الحركة السياسية والأمنية للحكومة، كما أن فتح باب الاتصال بالجماهير وتهيئة السبيل لإقامة أحزاب ينمي الروح الديمقراطية التي تحول دون انحراف السياسة ويقوي الرقابة الشعبية التي تكشف ما تحاول أن تواريه الحكومة بالتقية، فضلاً عن أن الانهماك الحقيقي في عملية التنمية وحشد الطاقات من أجلها لا يبقى مجالاً للانشغال بالتدخل في شؤون الآخرين بل إنه يقوي الاتجاه للتعاون والانفتاح والخروج من العزلة.

      وقد بدأت آثار هذا التحول في ظل حكم الرئيس خاتمي تظهر بوضوح في عدد من الأحداث سواء على صعيد السياسة الداخلية والتحول الديمقراطي أو على صعيد السياسة الخارجية والتحول للسلام والتعاون أو على صعيد السياسة الاقتصادية والانفتاح. أما فيما يتعلق بالسياسة الداخلية فقد تمثل التحول في رد فعل الحكومة إزاء حدثين بالغي الأهمية أولهما الحملة الشرسة التي قادها اليمين الإسلامي ضد الحكومة ومجمع تحديد مصلحة النظام الذي يساندها وتركزت في القضية المثارة في محاكم طهران حول تجاوزات رئيس مدينة طهران أحد ركائز أنصار التعمير ومعاونيه الذين اتهموا بالفساد والرشوة وسلب الأموال العامة والإثراء على حساب المشروعات التي تنفذ في العاصمة والتواطؤ مع رجال الأعمال، وقد كان كربا سجي رئيس مدينة طهران أحد مؤسسي جماعة أنصار التعمير والمؤيد القوي لخاتمي في انتخابات الرئاسة وكان مرشحاً لوزارة جهاد التعمير وكان وما يزال موضع دعم الرئيس هاشمي رفسنجاني ورغم ذلك فقد رد بمعقولية على الاتهامات في الصحف وامتثل لرأي معارضيه بالتوجه إلى المحكمة للإدلاء بشهادته في هذه القضية مؤكداً أنه لا يعرف سبباً لرفع هذه القضية للقضاء لأنها قضية سياسية بحتة تستهدف التقليل من حجم الإنجازات التي حققتها إدارته في جميع أنحاء العاصمة وهي إنجازات يمكن أن ترى بالعين دون الرجوع للأرقام والإحصاءات.

      أما حجة الإسلام رفسنجاني رئيس مجمع تحديد مصلحة النظام فقد رد بمعقولية شديدة على الاتهامات التي وجهت إلى إدارة المجمع وتجاوزها لأهدافه واختصاصه مؤكداً أن هذا المجمع ليس بدعة فقد أنشأه الخميني وأصبح جهازاً استشارياً للزعيم ولم يصبح سلطة فوق السلطات لأن الزعيم هو صاحب القرار وليس المجمع.

      أما القضية الثانية التي تعاملت معها الحكومة بحكمة فهي تمرد آية الله منتظري على الزعيم ومحاولة تشكيكه في قدرته على المرجعية ومطالبته بفصل الزعامة عن المرجعية حيث أكدت على عدم استخدام إمكانات الحكومة في مواجهة الانتقادات وأنها تقوم بواجبها في إطار القانون والدستور الذي كان آية الله منتظري أحد مدونيه ورغم قيام مسيرات ومظاهرات جماهيرية غاضبة ضد منتظري إلا أن الحكومة أعطت توجيهاتها بعدم المساس بآية الله منتظري أو أسرته، كما قام آية الله خامنه اي زعيم الثورة بالرد على انتقادات منتظري مؤكداً أنها لا تمس شخصه وأنه يقوم بتكليف شرعي وطالب الجماهير بالتوقف عن المظاهرات مؤكداً أنه يتجاوز عن حقه الشخصي، وأن القضية ينبغي أن تعالج في إطار القانون والدستور.

      وهكذا عبر النظام الإيراني الحاكم عن نضجه في شكل وكيفية رد فعله تجاه مخالفيه في الداخل كما أبان عن رغبته الحقيقية في التحول الديمقراطي المتدرج والمقنن، أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية فإنه إذا كانت الحكومة الإيرانية قد رفعت شعار التعاون بدلاً من المواجهة فإنها تقوم بسلسلة من الأعمال التي تمثل اختبارات متلاحقة لردود فعل دول المنطقة والدول التي لها مصالح حيوية في هذه المنطقة، وإذا كان من نماذج إنجازات السياسة الخارجية الإيرانية في ظل رئاسة هاشمي رفسنجاني إعادة وضع الاتحاد الأوربي وروسيا بقوة إلى جانب إيران وشرخ التحالف الأوربي الأمريكي لدعم السياسة الاقتصادية الحرة ويتمثل في صفقة العقد مع تكتل توتال لدعم صناعة وتصدير الغاز الطبيعي والنفط الإيراني فضلاً عن صفقة مفاعل بوشهر مع روسيا الاتحادية وصفقة الغاز مع تركيا فإن السياسة الخارجية في ظل رئاسة سيد محمد خاتمي قد حققت إنجازات على المستوى العربي والإسلامي والدولي يمكن رصدها في عدد من المؤشرات، يأتي في مقدمتها عقد مؤتمر القمة الإسلامي في طهران والنجاح الذي حققه والبيان الذي صدر عنه، فلقد كان الاتفاق على قبول استضافة طهران لهذا المؤتمر يشير إلى ترحيب الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي بالتحول الذي طرأ على السياسة الإيرانية نحو التجاوب والانسجام مع العالم الإسلامي، وكان الإعداد لهذا المؤتمر دليلاً على فهم إيران للرسالة حيث كانت الخطوات والإجراءات التي اتبعتها إيران في عملية الإعداد تمثل رموزاً واضحة لتبني سياسة جديدة يرتضيها العالم الإسلامي ورغبة أكيدة في التفاعل مع ظروفه وقضاياه والارتباط بمنظومته في انسجام فاتبعت إيران نموذج الدبلوماسية الدافئة في دعوة الملوك والرؤساء للحضور وتزاوجت الدعوات بالزيارات وتبادل الرأي وجس النبض حول مجريات الأمور داخل حوارات القمة وأعمال المؤتمر وأهم موضوعاته المطروحة مع انتقاء للشخصيات حاملة الدعوات ولم تغفل الدعوة فضلاً عن منظمة الأمم المتحدة وحركة عدم الانحياز الجامعة العربية ومنظمة الاكو ومجموعة كشمير ولجنة أفغانستان،وقد نجح أسلوب الدعوة في إشراك وفود خمس وخمسين دولة إسلامية وهو أكثر من ضعف العدد الذي اشترك في أول مؤتمر للقمة بالرباط سنة 1969، وقد هيأت إيران المجال لعقد لقاءات بين المشاركين في المؤتمر واجتماعات للمنظمات والهيئات والمجموعات المدعوة كمراقبين عل ى هامش المؤتمر لتحقيق التواصل بين منظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمات الإقليمية والدولية، وقد حرص النظام على أن تكون لقاءات الوفود المشاركة مع ثلاث شخصيات محورية للنظام هي خامنه اي زعيم الثورة ورفسنجاني رئيس مجمع تحديد المصلحة وخاتمي رئيس الجمهورية للتعبير عن وحدة النظام وتكامله، أما الرمز الأكثر أهمية فهو تولي جيش حراس الثورة الإسلامية مهمة تأمين أمن المؤتمر وسلامة الضيوف والمشاركين ورؤساء الوفود وتأتي أهمية هذا الرمز في أن هذا الجيش كان منوطاً به تصدير الثورة وإثارة القلق والإزعاج لكثير من دول المنطقة فبعد أن كان مثار التوتر الدائم في المنطقة والعالم الإسلامي أصبح يبعث على طمأنينة وأمن الملوك والرؤساء والحكام الذين كان مثار قلقهم في عملية مصالحة واضحة واقتراب سلمي يعبر عن التوجه الجديد لنظام الحكم الإيراني، ولقد عبّر الرئيس الإيراني سيد محمد خاتمي عن هذا التوجه الجديد بقوله: "إننا نعيش في عالم مرتبط ببعضه ولا يستطيع أي شعب أن يعيش في رفعة بغلق أبوابه في وجه العالم، فإذا كنا نريد أن نقيم علاقات مع العالم مفيدة لنا فينبغي أن تكون من موقع الاستقلال والعزة والاحترام المتبادل، ولقد أعلنا أن سياستنا مع العالم الإسلامي وخاصة دول المنطقة هي الرغبة في التعاون والصداقة مع الحفاظ على المواقف الخاصة لكل دولة، إن لدينا مصالح مشتركة وحاجة عامة للاستقرار والأمن من أجل التنمية ونستطيع أن نساعد بعضنا لتحقيقها".

      وفي المؤتمر الصحفي الذي أعقب مؤتمر القمة الإسلامي قال الرئيس خاتمي: "إننا ندعو العالم كله إلى السلام ولابد أن نبدأ من منطقتنا، إن مصر بلد كبير وإنها تمثل مع إيران الجناحين الكبيرين والقطبين الأساسيين للثقافة والحضارة الإسلامية، وإن إيران ترغب في حل جميع المشكلات مع مصر وأن الخلافات السياسية لن تحول دون استمرار الحوار، كما أن المملكة العربية السعودية بلد عظيم وكبير وعلاقاتنا طيبة معه، وإن علاقات إيران مع الإمارات العربية المتحدة كانت جيدة دائماً وأن الخلاف حول الجزر يمكن حله من خلال الحوار والتفاهم وإن طهران على استعداد لاستقبال الأخوة من الإمارات للتفاهم والحوار وتبادل وجهات النظر على أي مستوى، كما أن لدينا الإرادة لحل المشكلات المعلقة بيننا وبين العراق، وإنني أكن كل الاحترام للشعب الأمريكي العظيم ونرغب في عقد حوار معه في أقرب وقت ممكن".

      وفي هذا الإطار أيضاً أعلن مرتضى سرمدي وكيل وزارة الخارجية الإيرانية لشؤون أوروبا عن استعداد بلاده لبدء علاقات جديدة مع أوروبا وخاصة مع ألمانيا والنمسا بعد أن شابها بعض التوتر بسبب قرار محكمة ميكونوس.

      وإذا كان من البديهي أن مستقبل تطور العلاقات بين وإيران وأوروبا أو بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية منوط باستمرار السياسة الخارجية الإيرانية في اتجاه الواقعية والمرونة والتفاعل مع المجتمع الدولي، فإن مصداقية السياسة الخارجية لإيران رهن باستمرار إيران في التحرك نحو التعاون البناء لحل المشكلات المعلقة بينها وبين دول العالم وخاصة الدول العربية ويمكن أن نستقرئ هذه الاستمرارية من الأهداف التي وضعتها إيران لسياستها الخارجية خلال هذه المرحلة وهي أهداف تتراوح بين الخروج من العزلة وفك الحصار الأمريكي وبين توفير السبل الكفيلة بتطوير عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي بدأها النظام الإيراني من أجل بقائه واستقراره في الحكم عن طريق إيجاد علاقات طيبة مع دول العالم وخاصة دول المنطقة، كما تتراوح هذه الأهداف بين تحقيق الاستقلال السياسي وبين العودة للقيام بدور رئيسي على المستوى الإقليمي ودور مؤثر على المستوى الدولي، ويمكن أن نلمح ترجمة لبعض هذه الأهداف في حديث سيد محمد خاتمي رئيس الجمهورية مع عمرو موسى وزير الخارجية المصري في لقائه معه على هامش مؤتمر القمة الإسلامي: "إن إقرار ودعم علاقات صداقة بين طهران والقاهرة يمكن أن يكون بداية تحولات جدية في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي".

      وفي قوله في نفس اللقاء: "إننا رغم معارضتنا مسيرة السلام في الشرق الأوسط فإننا لم نسع لتحميل وجهة نظرنا على أية دولة أخرى أو أي فرد آخر بأي وجه من الوجوه في حين أن الأحداث تشير إلى أن من الصعوبة إمكان حمل إسرائيل على التراجع، وإننا نتوقع من الأخوة المصريين الضغط والتمسك بموقفهم الجديد الذي يحدث تحولاً في منطقة الشرق الأوسط وفي الدول الإسلامية، إن إيران ومصر محوران للسلام والتنمية والتقدم في المنطقة والعالم".

      كما يمكن أن نلمس ترجمة لأهداف إيران حديث هاشمي رفسنجاني أيضاً عند لقائه مع زعماء العالم الإسلامي على مأدبة عشاء تكريماً لهم حيث يقول: "إن رسالة العالم الإسلامي الكبرى في عصرنا هذا هي إعادة بعث وتنمية الحضارة والمدنية الإسلامية كصورة تتناسب مع العصر، حيث يمكنه بهذا البعث أن يحتل مكانه المناسب في هيكل القوى الرئيسية للعالم المعاصر، إننا في حاجة إلى التنمية، وإن الاحتياج المتبادل بين الدول بعضها البعض يمكن أن يكون قناة مناسبة لإيجاد تعامل مناسب، وإن الدول في تعاملها الثنائي والمتعدد أو الإقليمي تستطيع أن تلبي احتياجاته المتبادلة.

      وعلى كل حال فإنه بغض النظر عن تصريحات المسؤولين الإيرانيين حول السياسة الخارجية لإيران يمكن القول بأن النظام الحاكم في إيران وهو يبدأ المرحلة الثالثة من مراحل حكمه يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه يطور نفسه بما يتناسب مع الأحداث المعاصرة والظروف الراهنة حيث يظهر جلياً أن شكل النظام وتشكيلاته ومؤسساته وسياساته قد اختلفت في المرحلة الثانية التي تلت وقف الحرب العراقية الإيرانية عنها في المرحلة الأولى التي بدأت مع بداية تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران، وهي تختلف الآن مع بداية المرحلة الثالثة إلى حد كبير عنها في المرحلة الثانية بما يعني أن السياسات الإيرانية غير جامدة وأنها لا تتراجع إلى الوراء وأن تفاعلها اليوم مع الظروف الإقليمية والدولية لن يمكن النظام من التراجع عن تعهداته ووعوده والتزاماته، إلا أن شعار العزة والحكمة والمصلحة الذي يرفعه كأساس لسياسته  يشير إلى أن مرونته وتعاونه مع دول المنطقة والعالم وجنوحه إلى السلام والتفاهم لن يبعده عن قيم الثورة الإسلامية التي هي معيار مصداقيته ولا عن المكاسب التي حققها خلال المرحلتين السابقتين ولا عن تقديم المصلحة القومية لإيران عند الاختلاف مع أي طرف من الأطراف ولو كان عربياً أو إسلامياً.

      ولا شك أن شعار "العزة والحكمة والمصلحة" يتقاطع في كثير من القضايا مع الدول العربية والإسلامية بل مع الولايات المتحدة والتحالف الغربي أيضاً، وهذا التقاطع يبدو واضحاً في ثلاث قضايا أساسية تهم العالم العربي، هي: قضية تصديق الثورة الإسلامية ومع يتعلق بها من دعم الجماعات الإسلامية المتطرفة والمعارضة لنظام الحكم خاصة على مستوى الدول العربية والإسلامية، وقضية احتلال إيران لجزر الإمارات العربية الثلاث، أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى، وقضية محادثات السلام في الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل، فضلاً عن قضايا أخرى تتعلق بأهداف خاصة في العراق والبحرين.

      ويستطيع الدارس للخطاب السياسي للرئيس خاتمي أن يدرك أنه أحد تلامذة الخميني النجباء تتلمذ على يديه ويدي والده آية الله خاتمي ويدي صديق الخميني آية الله مرتضى مطهري، ثم زامل ثلاثة من أعمدة مدرسة الخميني هم آية الله بهشتي أحد منظري الثورة وأحمد الخميني محل سر والده، وهاشمي رفسنجاني محور النظام، ويمكن القول بأنه نزل الساحة السياسية من خلال عباءة رفسنجاني وهو لا ينفي ذلك بل إنه يبدي إعجابه بشخصه وتأكيده باقتفاء آثاره، ورغم ما يقال عن التأييد الجماهيري الذي أتى به إلى مقعد الرئاسة فإنه لم يكن في الحقيقة تأييد لشخصه وإنما باعتباره مرشح كوادر التعمير أنصار رفسنجاني والوسط واليسار الإسلامي سواء جمعية روحانيون مبارز أو مجاهدي الثورة الإسلامية، فهم أصحاب الفضل الأول في ترشيحه وفي نجاحه في الانتخابات بهذه الأغلبية، فشعبية خاتمي قبل ترشيحه لم تكن تتعدى شعبية أي وزير في حكومة رفسنجاني ولم تكن تصل إلى شعبية منافسه ناطق نوري الذي نزل الساحة قبله بكثير أو شعبية علي أكبر ولايتي أو مير حسين موسوي رئيس الوزراء السابق الذي عرضت عليه هذه الجماعات الترشيح قبل خاتمي بشكل رسمي ورفض فرشحت خاتمي.

      ومن أهم معالم الخطاب السياسي للرئيس خاتمي أنه يؤمن بأن بقاء النظام واستمراره وقوته رهن بتمسكه بالثوابت وتجاوبه مع المستجدات من خلال فكر مفتوح تنظمه الثورة الثقافية في تعاون بين الحوزة الدينية والجامعات، كما يؤمن خاتمي بالنظرة الشمولية للمجتمع وتقنين معطياته وثوابته وتحولاته، كما يؤمن بضرورة عدم التناقض بين أسس الحكومة الإسلامية والتطوير فضلاً عن التعقل والحكمة في الاستفادة من التجارب البشرية والخبرات السابقة، ومن أهم معالم خطابه السياسي أيضاً إيمانه بضرورة وجود إيران المتقدمة والمستقلة في نسيج المجتمع الدولي على أسس ثلاثة هي العزة والحكمة والمصلحة، وبما يتناسب مع تاريخها وحضارتها وموقعها الجغرافي وإمكاناتها الاقتصادية.

مستجدات الأحداث في إيران

      ما يزال نظام الجمهورية الإسلامية يتعرض للاختبار مرة بعد مرة إذ تشير الأحداث الجارية إلى التنافس والصراع على السلطة بين جناحين قويين من أجنحته هما اليمين المحافظ والمعتدلون الذين يمثلون كوادر البناء واليسار الإصلاحي، والطلاب في هذه المرحلة هم أداة الاختبار فقد كانوا وقود أحداث دامية وقعت في مطلع هذا العام (1999 م) عندما اعتقل "حشمت الله طبرزدي" رئيس "اتحاد الطلاب والخريجين" بسبب ارتكابه مخالفات قانونية وسياسية، فعمد أنصاره إلى تحريض الطلاب والتحرش بأفراد الحرس الثوري والتعبئة العامة (بسيج) وإصدار منشورات متعددة لإثارة الرأي العام الجامعي، وإرسال خطابات بدون توقيع إلى المسؤولين، وقد رصدت لهم الجهات الأمنية عدة مخالفات هي:

  1. حوّل أنصار "حشمت الله طبرزدي" مقر اتحاد الطلاب إلى خلية يتواجد فيها معارضو النظام لإصدار منشورات دعائية كاذبة بصورة مستمرة، والاتصال بالعناصر والجماعات المعارضة الموجودة خارج البلاد وتلقى آراءهم وتوصياتهم والاستفادة منهم في نشر بياناتهم في الخارج، وكان للطالب حسن زارع زاده مسؤول العلاقات العامة لهذه الخلية دور أساسي في هذا الموضوع.
  2. أدت التقارير التي أرسلتها هذه الخلية للخارج إلى استغلال حزب الشعب (فرع بلجيكا) ولجنة تضامن النرويج، إذاعة الحرية وصوت أمريكا لهذه التقارير، وتحريض وزير خارجية السويد لاتخاذ موقف ضد إيران من خلال تقديم صورة سلبية عن إيران للدول الأوربية والمحافل الدولية.
  3. حصول أفراد هذه الخلية على مساعدات مالية وسائر الإمكانات اللازمة لاستمرار نشاطهم وفتحوا حساباً مصرفياً لتلقى الأموال خلاله وهو ما صرحت به إذاعة الحرية الأمريكية.
  4. سعت هذه الخلية إلى إثارة الاضطراب داخل الحرم الجامعي وقطع أسلاك المكبر خلال حديث وزير التعليم العالي إلى الطلاب.
  5. اتضح أن "روزبه فراهاني بور" إحدى قيادات الخلية على اتصال بعناصر تابعة للجماعات المعادية للثورة في الخارج، وأنها قد شكلت بمساعدة عدة أفراد جمعية باسم "الحدود الفنية" (مرز بركهر) كفرع لحزب "بان ايرانيست"، وقامت بتوزيع المنشورات للجماعات المعادية للثورة وإجراء أحاديث إذاعية مع إذاعات أجنبية تؤكد فيها اضطراب الأوضاع السياسية في المجتمع، فضلاً عن قيامها بتسريب معلومات عن الأوضاع الإيرانية ودفع الطلاب لمهاجمة وكالة الأنباء الإيرانية.
  6. ظهر بين الطلاب ما يسمى "حزب الشعب" وهو حزب غير شرعي أسسه "خسرو سيف" و"بهرام نمازي" و" فرزين مخبر" و"مهران عبدالباقي"، وقد ساهم هذا الحزب في تحريض الطلاب ونشر البيانات وطرح الشعارات المهينة للمقدسات والاتصال بالخارج ونقل الأخبار المحرفة والإدلاء بالأحاديث الصحفية للوكالات الأجنبية.
  7. قيام "محمد اقبال كازوروني" ـ الذي اعتقل من قبل بتهمة العمالة لجماعة شيوعية عام 1982 ـ بقيادة الطلاب في الاشتباك الذي وقع مع قوات التعبئة في حديقة الجامعة، كما قام "سعيد رسوليان" وهو أحد عناصر الجماعات الملحدة بدور فعال في إثارة الفتنة بين الطلاب، وقام زميله "هزير بلاسجي" ـ من الجماعات الملحدة وقد اعتقل عام 1998 ـ بدور فعال أيضاً في قيادة المظاهرات الطلابية في أنحاء المدينة.

      وكانت الأحداث الطلابية قد تطورت عندما اشتبك عدد من الطلاب مع عدد من قوات التعبئة العامة (بسيج) الذين وبخوا الطلاب لخروجهم على الآداب العامة، مما أدى إلى وقوع قتيل وعدة جرحى في صفوف قوات التعبئة وفر الطلاب إلى المدينة الجامعية، فقامت قوة من رجال الأمن والحراس بمداهمة المدينة الجامعية للقبض على الطلاب الفارين واستمرت الحملة من الساعة العاشرة من مساء الخميس 8 / 7/ 1999 م إلى ظهر يوم الجمعة 9 / 7/ 1999 م، وقد أثارت هذه الحملة ردود فعل قوية في الأوساط الطلابية والسياسية خاصة في الجناح المعتدل، وقام الطلاب بالتحصن والاعتصام في الحرم الجامعي واختاروا لجنة منهم لعرض مطالبهم وأصدروا بياناً يطالبون فيه بلقاء زعيم الثورة ورئيس الجمهورية ورئيس مجمع تحديد مصلحة النظام، كما أرسلوا رسالة مفتوحة إلى العميد "هدايت الله لطفيان" قائد قوات الشرطة يطالبونه بالاستقالة.

      قام الرئيس خاتمي على الفور بعزل قائد الشرطة وثلاثة من معاونيه وتحويلهم لمجلس تحقيق، كما أعلن عن استنكاره لحادث اقتحام المدينة الجامعية، وقد استنكر كل من الزعيم خامنه اي وآية الله رفسنجاني رئيس مجمع تحديد مصلحة النظام هذا العمل ووعدا بتأمين سلامة وحرية الطلاب.

      قامت الجماعات المؤيدة للحكومة والرئيس خاتمي بتنظيم مسيرة في طهران بتاريخ 14 / 7/ 1999 م سرعان ما انضم إليها ملايين الأشخاص وامتدت إلى المحافظات الأخرى عبرت خلالها الجماهير عن تأييدها للرئيس خاتمي واستعدادها لالتزام الهدوء لاستكمال مسيرة البناء.

      أعرب المجلس الأعلى للأمن القومي عن استعداده للقاء ممثلين عن الطلاب المعتصمين، وقد تم اللقاء وقدم ممثلو الطلاب مطالبهم للمجلس، كما التقى ممثلو الطلاب بمسؤولي وزارة الداخلية ووزارة المعلومات وعدد من علماء الدين، وأعلنت وزارة المعلومات على الفور في بيان لها أنها ستشرع في دراسة ملفات الطلاب المعتقلين وتطلق سراح من يثبت عدم تورطه مع جهات أجنبية أو مع الجماعات المعارضة للنظام في الخارج.

      وقد أعلن المهندس مرتضى الويري رئيس مدينة طهران حجم الخسائر التي لحقت بالعاصمة نتيجة الأحداث الطلابية وحصرها في: احتراق أربعة حافلات للركاب، وشاحنتين للإطفاء، وثلاثة سيارات ركوب، و22 كشك تابع لشركة النقل العام، وعدد كبير من لافتات الإرشاد للمرور وقيادة السيارات، فضلاً عن الخسائر المادية التي لحقت المباني والحدائق والمنشآت الطلابية في الجامعة والأسوار.

      وشكل المجلس الأعلى للأمن القومي لجنة خاصة لمتابعة الأحداث الطلابية من رئيس هيئة أمن المعلومات في جيش حراس الثورة، والمدعي العسكري العام في طهران، ووكيل وزارة الداخلية للشؤون الأمنية، ورئيس هيئة التحقيقات العامة للبلاد، ومدير إدارة المعلومات في جيش الحراس، وممثل وزير الثقافة والتعليم العالي، وممثل وزير المعلومات.

      قام عدد من كبار قيادات جيش حراس الثورة الإسلامية (24 قائداً) بإرسال رسالة إلى رئيس الجمهورية تتضمن ملاحظاتهم على الأحداث الأخيرة واقتراحاتهم في هذا الشأن، فأصدر مكتب رئيس الجمهورية بياناً للرد على هذه الرسالة أكد فيه أن من حق الشخصيات العامة والجمعيات والهيئات ومنها الهيئات العسكرية والشرطية أن ترسل رسائل بمرئياتها إلى رئيس الجمهورية ـ كما حدث في عهد الزعيم الخميني ـ لذلك فإن رسالة قادة الحراس قد دخلت في برامج عمل رئيس الجمهورية وأرسل الرد عليها إلى قيادات الحراس وهذا أمر طبيعي، إلا أن مكتب الرئيس أبدى دهشته من نشر هذه الرسالة في الصحف.

      طالب ناطق نوري رئيس مجلس الشورى الإسلامي الحكومة بالكشف عن الغموض الذي ما زال عالقاً بقضية الطلاب وأن تسرع لجان التحقيق في عملها وتشرح الحقائق للجماهير.

      وقد سارعت الجهات المؤيدة للرئيس باستنكار موقف كل من قيادات جيش الحراس ورئيس السلطة التشريعية مؤكدة أنهما قد خرجا عن حيادهما حيث ينص الدستور على أن لا تتدخل القوات المسلحة في السياسة كما أكد الزعيم السابق "الخميني" والزعيم الحالي "خامنه أي" على ضرورة تعاون السلطة التشريعية  مع السلطة التنفيذية لا الضغط عليها وإحباط عملها.

      وقد سارع القائد العام لجيش الحراس بإعلان تأييده الكامل لرئيس الجمهورية مؤكداً أن جيش الحراس سوف يقف في مواجهة أية محاولة لإضعاف الرئيس أو إهانته، وأن علاقة جيش الحراس بالرئيس علاقة حميمة.

      وأكد محسن رضائي أمين عام مجمع تحديد مصلحة النظام والقائد العام السابق لجيش الحراس أن القضية ليست قضية طلاب وإنما هناك عناصر أرادت أن تفتعل أزمة، وحذر الحراس من أن تستفيد بعض العناصر المفرضة من تصريحاتهم أو أن يقوموا بأشياء باسمهم، وطالبهم بأن يغلقوا ملف القضية.

      كما أرسل أفراد البسيج رسالة إلى الرئيس خاتمي يعلنون فيها ولاءهم له، وقد أعرب الرئيس خاتمي في رده على الرسالة إيمانه المطلق بالشباب الواعي وأكد وفاءه بالوعد وتمسكه بالعهد وبذل أقصى طاقته من أجل صيانة حقوق الشعب وحريته، وأنه لن يتعب ولن يمل ولن يسأم من تحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقه.

      وفي إطار هذه الأحداث قامت السلطة القضائية بتحريض من اليمين المحافظ الذي ينتمي إليه رئيسها بتقديم رؤساء تحرير بعض الصحف للمحاكمة ـ مثل جريدة سلام وجريدة كيهان وهما من علماء الدين المؤيدين للجناح المعتدل ـ بتهمة نشر الأكاذيب وإهانة الرأي العام والسلطة التشريعية، ونظراً لأن المتهمين من علماء الدين فقد عقدت لهما محكمة خاصة من علماء الدين، وتشير مذكرة الدفاع التي أعدها حجة الإسلام موسوي خوئينيها رئيس تحرير جريدة سلام إلى عمق الصراع بين اليمين المحافظ والمعتدلين، حيث أكد في دفاعه أن القضية قضية سياسية وأن التضييق على الصحافة يضر نظام الجمهورية الإسلامية لذلك فهو يرفض تعديل قانون الصحافة، وقد أدانت المحكمة برئاسة حجة الإسلام "محمد علي سليمي" رئيس تحرير جريدة سلام في التهم المنسوبة إليه.

      وقد أكد سيد محمد رضا خاتمي شقيق الرئيس خاتمي وهو رئيس جبهة المشاركة أن معالجة المحكمة لقضية حجة الإسلام موسوي خوئينيها رئيس تحرير جريدة سلام كانت معالجة سياسية، وأنه حتى مع فرض ارتكاب جريدة سلام مخالفات فإن السلطة القضائية تتعامل بوجهين مع الصحف التابعة للجناح اليميني والجناح اليساري، كما أن الإذاعة والتليفزيون لم يلتزما الحياد في نشر وقائع المحاكمة حيث ألقيا الضوء على مذكرة الإدعاء ولم يذيعا الكثير عن مذكرة الدفاع، وأكد شقيق خاتمي أن الرئيس لا يفكر في الاستقالة ولن يتنازل عن سياسته وأهدافه.

      وقد دافعت الصحف عن حجة الإسلام موسوي خوئينيها وأثنت على موقفه وسلوكه أثناء المحاكمة وخاصة الصحف الكبرى مثل إطلاعات وكيهان وجمهوري إسلامي ورسالت مما أضعف رد الفعل الذي كان يرجوه اليمين المحافظ من إدانة أحد أقطاب المعتدلين.

      أعلن خاتمي في حديث له أنه سيواجه بحزم كل خروج على الشرعية وأنه سيضرب بقوة كل العناصر المخربة التي اشتركت في الأحداث الطلابية مهما كان انتماؤها ومهما كان الزي الذي ترتديه، وأن هذه الأحداث كانت لطمة للأمن القومي ومحاولة لزعزعة استقرار البلاد وتخريب الأملاك العامة والخاصة وإهانة النظام وزعيمه وقيمه، وأكد أن هذه الأحداث ـ في رأيه ـ كانت تمثيلية لتحطيم الشعارات الأساسية التي طرحها عند انتخابه للرئاسة وأن هذه الأحداث لم تكن عملاً ضد الأمن والاستقرار فحسب بل كانت إعلان حرب على رئيس الجمهورية وشعاراته، كما أكد أن أمن البلاد بالنسبة له أمر جاد ولا يمكن العبث به أو التسامح فيه لأن الأمن أساس الاستقلال والحرية والبناء والتقدم والتنمية وينبغي الضرب بشدة على كل يد تسعى لتخريبه، وقد أشار خاتمي إلى أنه ليس من دعاة العنف وأنه أعلن مراراً أنه لن يرد على العنف بالعنف، وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن هذا الأمر حقيقي وأنه أحد مفاخر الحكومة والشعب الإيراني، وأكد خاتمي أن الحكومة عالجت الأحداث الأخيرة بحكمة وأنه قد أطلق سراح ألف معتقل من بين ألف ومائتي شخص خلال ثمان وأربعين ساعة، وأن أحد لن يُظلم وسوف تراعى الدقة في التحقيق وسوف تراعى حقوق المتهمين، إلا أن المذنبين سوف يواجهون بالحزم، وأنه قد تم التفكير في كيفية مواجهة جماعات وعناصر الضغط.

      وقد أصدرت محكمة طهران حكماً بالإعدام على أربعة أشخاص من قادة الأحداث الطلابية الأخيرة لثبوت قيامهم بأعمال التخريب واتصالهم بجهات أجنبية وبالجماعات المعارضة للنظام خارج البلاد.

      وإذا كانت قضية الأحداث الطلابية قد أغلقت عند هذا الحد فإن قضية النزاع بين جناحي اليمين المحافظ والمعتدلين سوف تستمر فترة أخرى لاحقة نظراً لطبيعة نظام ولاية الفقيه حيث يعتقد مخططو النظام أنه ينبغي أن ترسم صورة الحكومة والسلطة التنفيذية في نظام ولاية الفقيه على أساس أنها تقوم بتنفيذ الولاية وليس تطويرها، لذلك فإن النظام مع احترامه لمبادئ فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وللرقابة الشعبية على عملها من خلال الاستفتاء والانتخابات والصحافة إلا أنه يعتبر هذه المبادئ غير كافية لتحقيق أهداف الحكومة الإسلامية، ويرى أن من الضروري أن يساعدها ميكانيزم ذاتي وعناصر إيمانية من التقوى والعدالة، ومن ثم يكون من الضروري قيادة السلطات الثلاث من خلال زعامة فقيه عادل عالم مدبر فطن تعمل بإذنه وتكون التقوى والعدالة هي أساس في القيام بالمسؤوليات سواء من جانب الناس أو من جانب الزعيم مع ملاحظة أن نقد وتقويم واستيعاب الجوانب الإيجابية في النظام الديمقراطي وإدخاله ضمن مبادئ النظام الإسلامي هو ثمرة اجتهادات علماء الدين الشيعة الكبار فقط.

      ومن هنا فإن موقع الحكومة والسلطة التنفيذية في نظام ولاية الفقيه يتحدد من خلال نشاطها في خدمة النظام وولائها للولي الفقيه رغم أن مقبوليتها لدى الناس تأتي من خلال الانتخاب الحر لرئيس الجمهورية وتعيين ومنح الثقة للوزراء بالتنسيق من رئيس الجمهورية ومجلس الشورى الإسلامي، وهنا تبدو جدة وطرافة التمازج بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وهو الذي يفرق بين هذا النظام وسائر النظم الديمقراطية أو الشعبية، ومن هذا الفرق أيضاً يبدو في ممارسة السلطة التنفيذية لعملها بعدان أساسيان هما البعد الداخلي والبعد الخارجي، ويبدو البعد الداخلي في التعاون بين السلطة التنفيذية والمؤسسات الأخرى في الدولة كأمر ضروري في كافة المجالات الداخلية من تنفيذ السياسات والخطط العامة للنظام، وتوفير الأمن والاستقرار والعدالة الاجتماعية والرخاء والصحة والتعليم، وكذلك في مجال السياسة  سواء على المستوى الإقليمي أو المستوى الدولي لدعم الاستقلال والسيادة والمصالح والأمن القومي والحفاظ على وحدة الأرض الإيرانية، ولا يعني التعاون هنا عدم استقلالية السلطة التنفيذية أو تنصلها من مسؤولياتها وإلقائها على عاتق أجهزة الدولة الأخرى بل إن مسؤوليات الحكومة تتحدد من خلال البعدين الداخلي والخارجي، وتأتي المسؤولية الاقتصادية على رأس مسؤوليات الحكومة، وتتلخص في وضع برنامج اقتصاد بدون نفط والقيام بأنشطة ومشروعات أساسية وعمرانية وإنتاجية، والاهتمام بقضية الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي.

      أما فيما يتعلق بالمسؤولية الثقافية فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمسؤولية الأمنية حيث أن النظام يجعل من الثقافة والهوية الجماعية حجر الزاوية في عملية استمرار النظام وصموده في مواجهة أعدائه، وينعكس هذا على السياسة  التي يوجهها شعار العزة والحكمة والمصلحة، من خلال ذلك يتحدد شكل الحكومة الإسلامية وأسلوب عملها وموقعها من نظام ولاية الفقيه ودورها في استمرار نظام الجمهورية الإسلامية.

      ولقد أحدثت الشعبية التي اكتسبها جناح المعتدلين تحولاً أساسياً عن السياسات التقليدية حيث تمكن المعتدلون من احتلال معظم مقاعد السلطة التنفيذية وأصبح خاتمي ـ أحد أعلامهم ـ رئيساً للجمهورية فبدأ ـ بمساعدة زملائه ـ محاولة تصحيح أخطاء نجمت عن اندفاع الثورة في اتجاهات غير متوازنة جعلتها تفقد مصداقيتها كحركة ترفع شعارات ثورية وإسلامية متداخلة، كما بدأ محاولة تثبيت وتعميق سيادة القانون والدستور في إيران حتى يعمق فكرة الاحترام المتبادل بين السلطات والأجهزة والأفراد ويكبح جماح الطموحات غير المشروعة ويدعم النظرة الواقعية للظروف والأحداث، وينقي الأسلوب الثوري في العمل من شوائب الجبر والعنف مع تحجيمه بالقانون، ويفتح باب الاتصال بالجماهير على مصراعيه، وينمي الروح الديمقراطية التي تحول دون انحراف السياسة، ويقوي الرقابة الشعبية على الأجهزة المختلفة.

      في المقابل يسعى اليمين المحافظ إلى العودة للسياسة التقليدية الإيرانية والعودة إلى ماهية الثورة المناهضة للاستكبار وعدم التساهل مع أعداء النظام ومنع التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية وكبح جماح الاتجاه للانفتاح والمحافظة على مكاسب الثورة وإنجازاتها، ويبدو أن الزعيم خامنه اى يدعم اتجاه اليمين المحافظ لما له من تأثير على دعم واستمرار نظام ولاية الفقيه، فضلاً عن كون هذا الاتجاه يمثل توازناً في مسيرة النظام نحو التنمية ويحول دون وقوعه في براثن التبعية للشرق أو الغرب، مما يشير بشكل قاطع إلى استمرار التنافس والصراع على السلطة في إيران بين جناحي اليمين المحافظ والمعتدلون لفترة طويلة قادمة.