إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / إيران.. التاريخ والثورة (الثورة الإيرانية من وجهة النظر الإيرانية)




هاشمي رافسنجاني
محمود أحمدي نجاد
محمد رضا بهلوي
محمد علي رحماني
محمد علي رجائي
آية الله منتظري
مير حسين موسوي
الإمام آية الله الخوميني
سيد محمد خاتمي
سيد علي خمنة آي





المبحث الأول

المبحث الأول

إيران قبل العصر الإسلامي

إيران ما قبل التاريخ

      يمتد عصر ما قبل التاريخ في إيران إلى فترة طويلة موغلة في القدم لكن الحضارة فيه لم تزد عن كونها حضارات قرى زراعية إلى جانب مجتمعات رعوية، وإن كانت الشاهنامة[1] قد سعت إلى تأكيد عمق الحضارة الإيرانية إلى عصر أسطوري يصل إلى زمن آدم أو نوح عليهما السلام وادعت أن الإنسان الإيراني قد اكتشف جوانب عظيمة من الحضارة الإنسانية مثل النار والمعادن واستخدمها في تطوير حياته، كما عرف الزراعة إلى جانب الرعي والصيد وكذلك مارس أعمال الصناعات اليدوية ومختلف الحرف والمهارات.

      وتشير الآثار إلى أن إقليم خوزستان أو سهل سوسيانا قد عرف حضارة متقدمة نوعاً ما على يد العيلاميين خلال الألف الثالث قبل الميلاد حيث كشفت أعمال التنقيب في تلاله عن مساكن وجبانات لمجتمعات زراعية، وأكثر الآثار المتخلفة عنهم من فخار كان يستخدم في أغراض شتى مثل الأواني والأدوات الخاصة بالاستعمال اليومي، وكان بعضه ملوناً وبعضه محلى بأعمال الزخرفة. وكانت مدينة سوسه هي عاصمة إقليم سوسيانا القديم وهو إقليم في جنوب غرب إيران ويعرف في التوراة باسم "عيلام"، وسوسيانا القديمة عرفت نوعاً من الكتابة يطلق عليه "العيلامية البدائية"، وقد انتقل هذا الخط إلى قلب هضبة إيران حيث ظل مستعملاً قروناً طويلة.

      ليست هناك معلومات كثيرة عن تاريخ إيران القديم ومعظمه إما مأخوذ عن روايات شعبية لا سند لها وإما مستنتج من النقوش التي عثر عليها في أعمال الحفر والتنقيب عن الآثار القديمة، والمعروف أن العلاميين كانوا في صراع مستمر مع جيرانهم من السومريين والأكاديين والبابليين وكانوا يتعرضون للهزيمة والقهر على يد كبار قادة هذه الدول مثل سرجون الأكدى و"اورغو" و"حمورابي"، حتى استطاع "اشوربانيبال" أن يحطم دولة العيلاميين ويخرب عاصمتهم "سوسه"، تخريباً تاماً في عام 640 ق. م.

      وفي أواخر الألف الثاني قبل الميلاد عبرت القبائل الآرية نهر جيحون الذي يمثل الحدود الشمالية الطبيعية لشبه الهضبة الإيرانية، واتجه فريق منهم إلى شبه القارة الهندية بينما اتجه فريق آخر غرباً عبر القارة في موجات متعاقبة يفصل بين كل منها فترة زمنية.

      وقد اشتمل الآريون الذين سكنوا شبه الهضبة الإيرانية على طوائف الميديين والفرس والبارثيين والباكتريين والسغديين والساكا والسيذيين، وقد استقر الميديون في غرب إيران، وأصبحوا هم والفرس في الجنوب خاضعين ـ في البداية ـ للدولة الآشورية، ولكنهم سرعان ما استقلوا بأنفسهم ثم قهروا الدولة الآشورية.

      وكانت "اكباتانا" ـ همدان الحالية ـ عاصمة الميديين، وقد حطم "سياكزارس" ملك ميديا (625 ـ 585 ق.م) قوة آشور ووسع ملكه حتى شمل جزءاً كبيراً من آسيا الصغرى، وتصالح ملك الميديين مع نبوخذ نصر ملك بابل الذي تزوج ابنته، وقسمت المملكة الآشورية من الميديين والبابليين، فبسط الميديون نفوذهم على الأقاليم الآشورية شرقي نهر دجلة وشماله، وتوسعوا نحو الغرب داخل آسيا الوسطى، وحاولوا فرض سلطانهم على ليديا ولكن انتهى الأمر بعقد تحالف بينهما نتيجة توسط ملك بابل، وقد استولوا على "اورارتو" عند بحيرة وان عام 585 ق.م ووصل نفوذهم حتى نهر "اراخيش" (اراس).

الدولة الأكمينية[2]

      استقرت طائفة أخرى كانت وثيقة الصلة بالميديين في إقليم فارس وانتشر أفرادها في سهول عيلام باعتبارهم حكاماً من قبل الميديين، وأصبح رؤساء هذه الطائفة التي تعرف باسم الأكمينين هم المسيطرون على هذا الإقليم الذي يعرف باسم "انشان" أو فارس، وفي عام 533 ق. م أسقط قورش (كوروش) حاكم "بارس" وقاد أبناء قبيلته في عدد من الغزوات الناجحة، حيث تقدم إلى آسيا الصغرى وهزم الملك الليدي "كروزوش" وفي حوالي 546 ق. م استولى على أرمينيا وآسيا الصغرى والمستعمرات اليونانية التي على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ثم عادا إلى "اكباتانا" بعد ذلك توجه إلى الشرق حيث استولى على "بارتيا" وخوارزميا (خوارزم) وباكتريا (بلخ)، وفي عام 539 ق. م.

      حاصر بابل وحول مجرى نهر الفرات فتمكن من الاستيلاء عليها وقام بتحرير اليهود من السبي البابلي وقد توفي قورش عام 529 ق. م، وغزا ابنه قمبيز مصر، وعندما قام أحد الموابذة (كهنة  معابد النار) واسمه "جوماتا" بالتمرد عليه انتحر قمبيز، وقد تولى بعده الملك "دارا" عرش الأكمينيين عام 521 ق. م. فأخمد العصيان وتوجه إلى آسيا الصغرى فعبر البسفور عام 512 ق. م واستولى على تراقيا، ثم عبر الدانوب وقام بحملتين على بلاد اليونان في 492 و 490 ق. م انتهتا بموقعة "ماراثون" وانسحاب الجيش الفارسي إلى آسيا الصغرى.

      تولى عرش الأكمينيين بعد دار ابنه اكزرسيز[3] عام 485 ق. م. الذي قام في بداية حكمه بإخماد الفتنة التي حدثت في مصر عام 484 ق. م، ثم أخمد ثورة بابل بعد حصارها عدة أشهر، ثم أعد العدة للحرب مع اليونانيين طوال ثلاث سنوات، وقد اختلفت المصادر حول عدد الجيش الإيراني الذي جرده اكزرسيز إلى بلاد اليونان بين 350 ألفاً و 900 ألف جندي فضلاً عن أسطول كبير يسانده ذكرت المصادر أنه يتكون من 1200 سفينة حربية و 300 سفينة نقل، وقد عبر الجيش الإيراني مضيق الدردنيل "هليس بونت" وتقدم الجيش الإيراني عبر طريق قفر واستسلم له سكان المناطق الواقعة عبر الطريق، لكن الجيش اليوناني أوقف زحف الإيرانيين عند مضيق "ترموبيل"، وقد تمكن الجيش الإيراني من الالتفاف حول الجيش اليوناني وألحق به الهزيمة وقتل قائده عام 480 ق. م. كما وقعت معركة بحرية في "آرتي ميزبوم" انتصر فيها الأسطول الإيراني أيضاً رغم تكبده خسائر كبيرة، ثم تحرك الجيش الإيراني متجهاً إلى "أثينا" واستولى عليها وأحرق معبد القلعة انتقاماً مما فعله اليونانيون في "سارد"، ثم عاد اكزرسيز إلى آسيا الصغرى، وترك قيادة الجيش إلى أحد قواده ويدعى "مردونيه" الذي دخل في حرب مع اليونانيين في "سالامي" هزم فيها الجيش الإيراني عام 479 ق. م، كما هاجم اليونانيون السفن الإيرانية عند جزيرة "سامس" في "رأس ميكال" في نفس العام وقضوا عليها فصارت لهم الغلبة البحرية.

      بعد انتهاء الحرب اليونانية لم تقع أية حادثة هامة في عهد هذا الملك حيث أمضى بقية عهده في اللهو حتى تآمر عليه حرسه الخاص فقتلوه وقتلوا ابنه داريوش عام 465 ق. م. تولى "اردوان" الحكم سبعة أشهر حتى تمكن "أردشير" الأول من قتله والجلوس على العرش. وقد حدث في عهده تمرد في مصر (454 ـ 460 ق. م) إلا أنه استطاع القضاء عليه، كما عقد مع اليونانيين معاهدة صلح "كيمون"، وقد توفي أردشير عام 424 ق. م.

      تولى "خشيارشا" الثاني مقاليد الحكم بعد والده إلا أنه قتل بعد 45 يوماً فقط. حكم "سفديانس" من بعده ستة أشهر تقريباً ثم قتل.

      تولى "داريوش الثاني" عرش إيران بعد ذلك، فعقد معاهدة تحالف مع "اسبار طه" وساعدها في حربها ضد "أثينا" حتى انتصرت عليها، وقد توفي داريوش الثاني عام 404 ق. م. بعد أن فشل في إخماد تمرد وقع في مصر.

      حكم أدرشير الثاني من بعده، وقد ثار ضده أحد أمراء الأسرة الحاكمة ويدعى كوروش إلا أن أردشير استطاع هزيمة كوروش وقتله وتشتيت جيشه، لكن العلاقات بين إيران واسبرطة قد ساءت بسبب مساعدة اسبرطة للأمير كوروش، في الوقت الذي حدث فيه تقارب بين إيران وأثينا حيث تدخل أردشير لفرض الصلح بين اسبرطة وأثينا عام 387 ق. م.

      وقد واجه أردشير عدة فتن وقلاقل في الولايات الإيرانية إلا أنه استطاع إخمادها إلا أن مصر قد استقلت عن إيران في عهده، كما قتل داريوش بن أردشير ـ وكان ولياً للعهد ـ وكذلك آرسام الابن الآخر لأردشير، وقد توفي والده حزناً عليه عام 361 ق. م.

      تولى أردشير الثالث عرش الأكمينيين بعد ذلك وقد حدثت في عهده اضطرابات كثيرة خاصة في الولايات الشرقية، وقتل في نهاية الأمر مسموماً على يد "باكواس" ـ أحد قواده ـ عام 338 ق. م. وتولى من بعده ابنه "آرشك" إلا أنه قتل بدوره على يد وزيره عام 336 ق. م. وقد تولى من بعده داريوش الثالث آخر ملوك هذه الدولة.

ويعتقد المؤرخون أن مقتل وزيره "باكواس" قد ساعد على انهيار ملك الأكمينيين.

      كانت دولة الأكمينيين تضم عشرين ولاية كبيرة من أهمها: فارس ومصر والهند وبابل وآشور وأرمينية وسوريا وفينيقية وآسيا الصغرى كانت تربط بينها شبكة كبيرة من الطرق ساعدت على رواج حركة التجارة.

      وقد اتخذت الدولة عدة عواصم بدأت بمدينة "سوس" ثم "اكباتانا" ثم "بابل" ثم "باسارجاد" حتى بنى دارا الأول عاصمة جديدة هي "برسبوليس" (اصطحز الحالية) وتسمى أيضاً "تخت جمشيد".

      كانت الدولة الأكمينية تدين بالديانة الزردشتية التي تجعل من أهوارامزدا الإله العظيم إله الخير الذي ينشر ظله على البلاد ويمنح حاكمها سلطات مقدسة وله أعوان كثيرون مثل الشمس والنار ومظاهر الخير والنور، كما تجعل هذه الديانة من اهريمن الشيطان إلهاً للشر وله أعوان تتمثل في الظلام وعناصر الشر، وتقول بصراع دائم بين عناصر الخير والشر ينتهي بظهور مبعوث كل ألف سنة ينصر الخير على الشر.

      وكان للإيرانيين معابد للنار يقدمون فيها القرابين للآلهة لذلك سميت الرزدشتية بالمجوسية في كثير من الكتب التي تحدثت عن تاريخ إيران القديم.

      الكتاب المقدس للديانة الزردشتية هو الأوستا يحفظه الكهنة الذين يسمون بالموابذة ويعلمونه للناس.

      وقد اشتمل الفن الإيراني في هذا العصر على عناصر أجنبية من البلاد التي استولى عليها الأكمينيون من السند حتى النيل مما أنتج فناً مركباً يتضح في الآثار التي بقيت عن هذه الدولة.

      وللدولة الأكمينية مكانة كبيرة في نفوس الإيرانيين باعتبار أنها تمثل أول إمبراطورية حقيقية للإيرانيين في التاريخ القديم حيث سيطرت على دول كبيرة ذات حضارة عريقة في العالم القديم، ويفخرون بما حققته من إنجازات حضارية وما وضعته من أسس إدارية وتنظيمية، ويعتزون بما خلفته من آثار وتراث حضاري.

الدولة السلوقية[4]

      استطاع الاسكندر الأكبر المقدوني إسقاط الدولة الأكمينية، وقد ولد الاسكندر بن فيليب ملك مقدونيا عام 356 ق. م، وبدأ تنفيذ سياسة والده في تثبيت قواعد الحكم في بلاد اليونان عام 336 ق. م. ثم سار لفزو إيران على رأس جيش مكون من 35.000 جندي واستطاع هزيمة دارا الثالث في موقعه "ايسوس" وهرب دارا فتقدم الاسكندر إلى مصر واستولى عليها ثم عاد إلى سوريا ودخل ما بين النهرين وعبر الفرات ودجلة فهزم جيشاً فارسياً يبلغ عدده أضعاف عدد جيشه في موقعة "اربل" وفر دارا الثالث مرة أخرى فتوجه الاسكندر جنوباً إلى بابل ثم إلى سوس ثم إلى برسبوليس فأحرقها انتقاماً لإحراق مدينة أثينا، وفي ربيع عام 330 ق. م خرج الاسكندر لمطاردة دارا الثالث فتوجه إلى اكباتانا، ثم سار في المنحدرات الجنوبية لسلسلة جبال البرز، ولم يلبث أن عثر هناك على جثة الملك الأكميني مقتولاً بأيدي اتباعه، فاستكمل الاسكندر فتوحاته إلى أقصى الولايات الشرقية التابعة للدولة الأكمينية.

      وقد تزوج الاسكندر ابنة دارا الثالث الكبرى وشجع جنوده على اتخاذ زوجات إيرانيات إلا أنه ابتلي بمرض الحمى في بابل ومات في عام 323 ق. م، ووقعت البلاد الشاسعة التي فتحها في أيدي قواده وقسمت إلى ملكيات كبيرة، وكانت إيران من نصيب قائد المشاة "سلوكس".

      وقد قسم "سلوكس" دولته التي كانت تضم آسيا الصغرى وبلاد الشام والعراق وإيران بعد تنازله عن مقاطعات الهند إلى الفاتح الهندي "شاندرا جوبتا" مقابل 500 فيل ـ إلى قسمين: القسم الشرقي وشيد له عاصمة جديدة باسم "سلوكية" على نهر دجلة في العراق، والقسم الغربي وأسس له العاصمة "أنطاكية" على نهر العاصي وعين ابنه "انطيوخس الأول" حاكماً على القسم الشرقي.

      تولى عرش السلوكيين بعد مؤسس الدولة ثمانية عشر ملكاً، كان أكثرهم ملوكاً ضعافاً، أخذت أجزاء المملكة تستقل الواحدة تلو الأخرى في عهودهم حتى فقدت أراضيها في الشرق بعد قرن ونصف من تأسيسها، حيث استقلت بلاد فارس في عهد "انطيوخس الأول"، ثم انسلخت بعد ذلك مملكة "باكتيريا" شرقي إيران، ثم استقلت بلاد البارثيين عام 209 ق. م. وصارت سوريا ولاية رومانية عام 60 ق. م. وقد نشب خلاف بين أفراد الأسرة السلوكية أدى إلى حرب بينهم استمرت حتى مقتل انطيوخس الثالث عشر آخر ملوك هذه الأسرة.

      والمعلومات عن إيران وأوضاعها في عهد الاسكندر والسلوكيين قليلة حيث يعتبر الإيرانيون هذه الفترة من الفترات السيئة في تاريخهم فيتجاوزون عن تسجيل ما يتعلق بهذه الفترة، كما أن المصادر الأجنبية وخاصة اليونانية لا تقدم الكثير من المعلومات عنها، وتذكر أن الاسكندر والسلوكيين قد شيدوا سبعين مدينة تحمل اسم الإسكندرية في سيستان وأفغانستان وبلوجستان وعلى شاطئ نهر جيحون وكثير من الأماكن الأخرى، كما شيدوا مدينة "أنطاكية" في فارس، كذلك شيد الاسكندر في ماده قلعة ومدينة "صد دروازه" في الجنوب الغربي من دامفان.

      ولعل عدم تركيز المؤرخين الإيرانيين على هذه الفترة يرجع إلى أنهم يعتبرونها فترة حكم أجنبي لإيران لم يراع الحاكم فيها حضارة الشعب وعقائده وتقاليده، وأهملوا شؤون البلاد والعباد، وقد حاولت الشاهنامه أن تعقد نوعاً من المصالحة بين الإيرانيين وتاريخ هذه الفترة فادعت أن الاسكندر من أصل إيراني وأن أباه أمير إيراني تزوج من أميرة يونانية وكرهها فأرسلها إلى أبيها وكان لا يدري أنها حامل في ابنه الذي أخذ اسم جده لأمه، وعندما كبر أراد أن يسترد عرش أبيه وأجداده ولكن التلفيق في هذه القصة واضح وليست هناك أية آثار أو دلائل تؤكد هذه الرواية.

دولة البارثيين

      البارثيون يعرفون في التاريخ أيضاً باسم "الأرشكيين" نسبة إلى ملوكهم الأول، وكانوا ـ في الأصل ـ قبيلة من قبائل الساكا تتنقل في منطقة تقع شرقي بحر قزوين، ثم سيطرت بعد ذلك على إقليم "بارثاوا" الذي كان تابعاً للدولة الأكمينية.

      قام "أرشك" الأول (248 ـ 236 ق. م) بثورة ناجحة ضد الحاكم السلوقي، واستطاع "أرشك" الثاني (246 ـ 211 ق. م) تدعيم استقلال المملكة الجديدة، وقاوم "أرشك" الثالث (211 ـ 190 ق. م) المحاولات السلوقية لغزوها، ثم بسط "مثير اداتس"[5] الأول الحكم البارثي على باكتيريا وبارسا وبابل وخوزستان وميديا، إلا أن البارثيين تورطوا ـ بعد ذلك ـ في حروب طويلة ضد السيذيين المقيمين على حدودهم الشرقية، كما أن الهجرات العديدة التي قامت بها قبيلة "ساكا" سببت لهم متاعب جمة حتى استطاع "ميثراداتس" الثاني (123 ـ 87 ق. م) تدعيم القوات البارثية وأن يقضي على المشاكل ويوسع نفوذ اليارثيين حتى امتد من الهند إلى أرمينية.

      وفي عهد فرايتس[6] الثالث (70 ـ 57 ق. م) بدأت الحروب مع روما على طول الحدود المشتركة في شكل سلسلة متقطعة استمرت حوالي ثلاثة قرون، تمكن البارثيون خلالها من هزيمة مارك انتوني في موقعة "فراءاتا" جنوب بحيرة أرومية، كما نجح "تراجان" الروماني في إلحاق الهزيمة بالبارثيين.

      كان البارثيون يعتبرون أنفسهم ورثة للأكمينيين من الناحية السياسية والإدارية لذلك فقد اعتمدوا مزيجاً من الحضارة الإيرانية والإغريقية (الهيلينية) في حياتهم وانعكس ذلك على المدن بما فيها " طيسفون"[7] العاصمة.

      كان البارثيون يتكلمون لغة فارسية وسيطة قريبة في تركيبها من اللغة المستعملة في نهاية العصر الأكميني، ويكتبونها بخط آرامي يسمى الخط البهلوي، كما اتخذوا الديانة الزردشتية ديانة رسمية، وظهر أول تفسير للأوستا (الكتاب المقدس عند الزردشتين) في عهد البارثيين إلا أن تسامحهم مع اتباع الديانات الأخرى سمح للمسيحية بالانتشار في الجزء الغربي من الدولة في القرن الثاني الميلادي.

      استمرت دولة البارثيين من عام 249 ق. م إلى 226 م وعرفت باسم "ارساسيد" عند الغربيين، ودولة الأشكانيين عند مؤرخي العرب والفرس.

الدولة الساسانية

      تذكر المصادر الفارسية أن "ساسان" الجد الأكبر لملوك هذه الدولة كان سادنا لبيت نار أقيم في مدينة "اصطحز" الزهرة (ناهيد)، وكانت زوجته "رام بهشت" ابنة أحد ملوك البازرنكين الذين كانوا يحكمون "نيسايه" في حين تذكر المصادر الغربية أن اسم الدولة مشتق من لقب فارسي قديم هو "ساسان" بمعنى القواد، ثم صار اسماً للأسرة الحاكمة وإن الساسانيين قد ربطوا سلسلة نسبهم بالأكمينيين عن طريق سلسلة ملوك "الفراتادارا" الذين ظلوا مستقلين إلى أن دخل إقليم " بارس " تحت الحكم البارثي.

      كان "بابك بن ساسان" يحكم في مدينة خير الواقعة على شاطئ بحيرة "بختكان"، وقد حصل لابنه "أردشير" على رئاسة قلعة مدينة داراب من "كوزهر البازرنكي"، ومنذ ذلك الوقت بدأ ارتفاع شأن هذه الأسرة، ثم قتل "بابك" "كوزهر" ونصب نفسه ملكاً، وطلب من "أردوان" الخامس إمبراطور البارثيين لقب ملك لابنه الأكبر "شابور" فرفض أردوان، ومع ذلك أطلق شابور على نفسه لقب ملك بعد موت أبيه، ولم يستمر ذلك طويلاً إذ توفي شابور تحت أنقاض قبو تهدم بقصر ملكه الذي كان يسمى باسم "هماي"، فأصبح أردشير ملكاً عام 212 م.

      بدأ أردشير[8] حكمه برفع راية العصيان على دولة البارثيين، وقام عام 223 بحملة على كرمان وهزم ملكها "تلاش" وجعل ابنه "اردشير" ملكاً عليها، ثم أخضع ملوك خوزستان وعمان، ثم دخل في حرب مع "أردوان" الأشكاني في هرمزدكان" عام 224 م فهزمه وقتله، ثم استولى أردشير على "طيسفون" بعد سنتين من مقتل "أردوان" فدخلت إيران تحت حكم أردشير وإن بقيت كل من أرمينية وكرجستان مستقلتين، وقد ذهب أردشير إلى الهند بعد استيلائه على خراسان وبلخ وخوارزم وتوران ومكران فاستولى على البنجاب ووصل بالقرب من "سيرهند" التي أعلن ملكها عن خضوعه لأردشير، ثم عاد أردشير إلى إيران، وعقد العزم على محاربة الروم فعبر نهر الفرات عام 228 م واستطاع أن يهزم "اسكندر سفروس" قيصر الروم ويستولي على نصيبين وحران، ثم توجه إلى أرمينية فقتل ملكها خسروا واستولى عليها.

      حاول أردشير بعد ذلك أن يرسي قواعد الحضارة الساسانية فعقد حلفا بين الدين والدولة حيث أمر بجمع الأوستا" الكتاب المقدس عند الزردشتيين وجعل دين زردشت هو الدين الرسمي للدولة، وأكثر من رجال الدين ورقى رئيسهم الذي كان يلقب "بالموبدان موبد" إلى أعلى منصب حكومي، وأمر بإشعال النيران المنطفئة في معابد النار.

      جعل أردشير الحكومة الساسانية حكومة مركزية وأبدل الملوك والأمراء المحليين بنبلاء البلاط ومنحهم ألقاباً مختلفة، ثم قسم الشعب إلى طبقات وصنف موظفي الحكومة، فضلاً عن إحياء فكرة الجيش الدائم، وإلزام الجميع بالنظام والقانون، وقد قام أردشير ببناء أو إعادة بناء عدد من المدن مثل "أردشير خسرو" (فيروز آباد الحالية)، به أردشير خير أردشير، نف أردشير، رام أردشير.

      ويحتل أردشير مكانة كبيرة لدى الإيرانيين باعتباره موحد الأمة الإيرانية وباعث الدين الزردشتي ومؤسس الإمبراطورية البهلوية.

      توفي أردشير عام 240 م وخلفه ابنه "شابور" فورث دولة قوية عمل والده طوال خمسين عاماً على إرسائها، ولكن سرعان ما واجه شابور تمرداً في كل من أرمينية وحران وقد استطاع القضاء عليهما، وعندما رأى اضطراب الأحوال الداخلية في بلاد الروم حاصر مدينة "نصيبين" واستولى عليها، ثم اتجه إلى "أنطاكية" واستولى عليها، إلا أن الإمبراطور "جوردين" تمكن من إخضاع منافسيه وتولى عرش روما وجردجيشا لمواجهة الإيرانيين فهزمهم في سوريا وعبر نهر الفرات واستولى على "نصيبين"، إلا أنه قتل وتولى مكانه "فيليب" فعقد صلحاً مع "شابور" صارت بمقتضاه أرمينية وما بين النهرين جزءاً من إيران.

      وإذا كانت الحرب بين الروم وإيران قد استغرقت في تلك الفترة ثلاث سنوات (241 ـ 244 م) فقد قامت حرب ثانية استغرقت نفس الفترة (258 ـ 260 م) عبر خلالها شابور نهر الفرات مرة أخرى بنجاح واتجه إلى "انطاكية" فاستولى عليها، وعندما أراد الروم استرجاعها حاصرهم الجيش الإيراني وتمكن من أسر "فاليريان" إمبراطور الروم واقتاده إلى إيران.

      وظل "فاليريان" في إيران حتى مات، وكان شابور قد توجه إلى آسيا الصغرى واستولى على قيصرية مازاكا، ثم عاد إلى إيران، وفي الطريق هاجمه جيش الملك "أذينة" ملك تدمر عام 265 م وأنزل به خسائر فادحة واستولى على كثير من الغنائم.

      خصص شابور سنوات حكمه الأخيرة في تدعيم الدولة حيث أعاد تنظيم الإمبراطورية، وأقام سد "شستر"، وأنشأ العديد من المدن، منها: "نه شابور" (نيسابور الحالية)، كما اهتم بالعلوم فأمر بترجمة الكثير من الكتب الإغريقية والهندية عن موضوعات مختلفة مثل الطب والفلك والفلسفة.

      وقد ظهر في عهده أحد الدعاة الدينيين ويدعى ماني (215 ـ 273 م) فأنشأ المذهب المعروف باسمه (المانوية) وهو مذهب إصلاحي للديانة الزردشتية استفاد من البوذية والمسيحية وقد اهتم به شابور ومنحه حمايته حتى استقر أمره وكثر اتباعه، وانتشرت المانوية في جميع أنحاء إيران في الفترة من القرن الثالث حتى القرن الثاني عشر.

      توفي شابور الأول عام 271 م وخلفه على عرش الساسانيين ابنه هرمز الأول لكنه لم يحكم سوى عام واحد حيث توفي عام 272 م، وخلفه أخوه بهرام الأول الذي حكم أربع سنوات، وقد تم القبض على الداعية "ماني" بأمر هذا الملك وعقد له مناظرة مع رجال الدين الزردشتي، ثم أمر بسلخه وتعليقه على باب مدينة "جند يسابور". وقد توفي بهرام عام 275 م.

      جلس بهرام الثاني على عرش الساسانيين بعد أبيه فقام بإخضاع قبائل السك المتمردة في سيستان وأفغانستان ودعم ملكه في المناطق الشرقية لإيران، ثم عاد لمحاربة الروم حيث تمكن الإمبراطور كاروس من الاستيلاء على مناطق ما بين النهرين حتى طيسفون، لكن صاعقة أصابت جيشه وقتلته فعاد الجيش إلى بلاده، توفي بهرام الثاني عام 282م.

      تولى بهرام الثالث حكم إيران بعد أبيه ولكنه لم يحكم أكثر من عدة شهور، وخلفه "نرسي" على العرش فدخل في نزاع مع أخيه هرمز وانتصر عليه، ثم توجه لمحاربة جيش الروم فالتقى به عند "حران" وتمكن من هزيمته بعد معارك ضارية عام 296 م وعاود الروم الحرب وتمكنوا هذه المرة من هزيمة نرسي الذي جرح وهرب بصعوبة عام 297 م واضطر إلى عقد معاهدة مشينة مع الروم أدت إلى تركه الحكم ووفاته كمدا.

      جلس هرمز الثاني على عرش إيران بعد أبيه وحكم خلال الفترة (301 ـ 310 م) وقتل في إحدى المعارك مع العرب عام 310م.

      تولى "آذرنرسي" الحكم بعد أبيه ولكنه سرعان ما قتل على يد كبار رجال الدولة. تولى شابور الثاني حكم إيران بعد مقتل الملك السابق، وهو ابن هرمز الثاني وأعلن الموبذ الأكبر توليه وهو ما زال جنيناً في بطن أمه، وتولى زمام الأمور وهو في السادسة عشرة تحت رعاية الموابذة وظل في الحكم طوال سبعين عاماً، وقد بسط الاستقرار في المنطقة الجنوبية وقضى على تمرد البحرين، ثم بدأ حرباً مع الروم استمرت حوالي اثنى عشر عاماً (238 ـ 350 م) دون أن يحصل أي من الطرفين على نتيجة حاسمة، وفي تلك الأثناء وقعت أحداث في الولايات الشرقية اضطر سابور على إثرها إلى ترك حصار نصيبين والتوجه إليها عام 350 م حيث هاجم "الهون" حدود إيران، واستمرت حروب سابور مع قبائل الهون حوالي سبع سنوات (350 ـ 357 م) حتى انتصر عليهم، ثم عاد إلى محاربة الروم عام 359 م فزحف إلى قلعة "آمد" الحصينة (ديار بكر حالياً) واستولى عليها بمشقة عام 360 م، ثم استولى على "بزايد"، ثم خاض معارك كبيرة على شاطئ دجلة مع "جوليان" إمبراطور الروم الذي عبر نهر الفرات واستولى على مدن ما بين النهرين ومنها مدينة "فيروز سابور"، وقد قتل جوليان في إحدى هذه المعارك، وقد اضطر الروم لقبول الصلح مع سابور ووقع الإمبراطور "جوفيان" معاهدة تعيد لإيران البلاد التي كانت قد فقدتها منذ عهد "نرسي"، لكن الإمبراطور "والن سين" نقض المعاهدة فدخل معه سابور في حرب استمرت عدة سنوات دون نتيجة تذكر، وفي عام 376 م اتفق الطرفان على أن لا يتدخلا في شؤون دولتي أرمينية وكرجستان أو يسيطرا عليها.

      توفي سابور عام 379 م بعد أن ترك لخلفائه دولة قوية قضى على مشاكلها، وأوقف اعتداءات جيرانها ومنحها الاستقرار.

      جلس "أردشير الثاني" على العرش بعد أبيه وحكم إيران حتى خلعه النبلاء عام 382 م، وخلفه على العرش "سابور الثالث" بن "سابور الثاني"، وفي عهده تم تقسيم "أرمينية" بين إيران والروم حازت إيران منها القسم الأكبر عام 384 م.

      خلف "بهرام الرابع" أخاه على عرش إيران عام 388 م، وحكم بعده يزدجرد الأول ابن سابور الثالث عام 399 م، وقد تحسنت العلاقات بين إيران والروم الشرقية في عهده حتى أن "أركاديوس" إمبراطور بيزنطة أوصى ليزدجرد بحماية الإمبراطورية حتى يكبر ابنه ويتولى شؤونها، كما منح يزدجرد الحرية للمسيحيين في إيران وسمح لهم  ببناء الكنائس، وأمر ببناء مدينة يزد، وقد توفي عام 420م.

      تولى بهرام الخامس الذي شب في بلاط النعمان بن المنذر ملك الحيرة وجلس على العرش بمساعدته بعد أن كان النبلاء قد أجلسوا عليه أحد أقارب يزدجرد ويدعى خسرو، وقد استطاع بهرام أن يوقف هجمات بدو صحراء الولايات الشمالية الشرقية لإيران وباختر، وأن يقضي على تمرد بلاد ما وراء النهر الذي قاده الهياطلة عام 425 م، ثم دخل في حرب مع الروم الشرقيين عند "نصيبين" وحاصر "أرضروم" لكنه لم ينجح في السيطرة عليها، وقد انتهت هذه الحرب بتوقيع معاهدة بين الطرفين تقضي بحرية العبادة للمسيحيين في إيران وللزردشتيين في بلاد الروم وأن تدفع بلاد الروم مبلغاً سنوياً لإيران مقابل رعاية الحاميات في قلعة "داريال" بالقفقاز لمنع اعتداءات سكان الشمال على حدود إيران والروم.

      توفي بهرام أثناء رحلة صيد عام 438 م وتولى بعده ابنه يزدجرد الثاني عرش إيران، وقد انتصر على الهياطلة في الشرق وعلى الروم في الغرب، واستمر في حروبه من 443 حتى 451 م استطاع بعدها أن يوفر الاستقرار والأمن للبلاد الإيرانية.

      وقد جلس على عرش إيران هرمز الثالث عام 457 م حتى أقصاه أخوه فيروز الأول وجلس مكانه عام 459 م، وقد قضى على تمرد الألبان، ثم دخل في حرب مع الهياطلة وشيد سوراً في "جرجان" امتد من بحر "الخزر" مع "نهر جرجان" حتى يكون سداً في مواجهة الهياطلة وتعرف بقاياه اليوم باسم "سد الاسكندر" ثم أخمد فتنة "أرمينية" و"كرجستان".

      حكم "بلاش" بعد أبيه عام 483 م واستطاع أن يقر اتفاقاً مع أرمينية وكرجستان جعلهما حليفتين له في مقابل أن يصبح الدين المسيحي ديناً رسمياً لهما.

      توفي بلاش عام 487 م وخلفه قباد بن فيروز، وقد ظهر الداعية مزدك في عهده وعرض عليه نوعاً من الشيوعية في المال والنساء وقد قبل "قباد" مذهبه بهدف الحد من نفوذ النبلاء ورجال الدين فخلفوه وأجلسوا أخاه جاما سب على العرش الذي حبسه في قلعة فراموشى عام 498 م.

      هرب قباد من محبسه ولجأ إلى الهياطلة الذين ساعدوه في الجلوس على عرشه من جديد عام 501 م، ثم دخل في حرب مع بلاد الروم لامتناعها عن سداد ديونها لإيران فحاصر "أرضروم" واستولى عليها ثم استولى على "آمد" (ديار بكر) وهزم جيش بيزنطة، ثم اضطر إلى عقد هدنة لمدة سبع سنوات مع الروم عام 506 م حتى يعود لمواجهة تمرد الهياطلة حيث حاربهم لمدة عشر سنوات واستطاع أن يقضي على خطرهم ثم عاد لحرب الروم الشرقية بسبب تمرد بلاد كرجستان، وقد تمكنت الجيوش الإيرانية عام 526 م من دخول كرجستان "ولازيكا" والاستيلاء على هذه المناطق، وفي عام 531 م توجه جيش إيران إلى سوريا وتمكن من هزيمة جيش الروم، إلا أن "قباد" قد توفي في ذلك الوقت عام 531 م فعادت الجيوش الإيرانية دون أن تحقق نتيجة تذكر.

      تولى كسرى أنوشيروان حكم إيران بعد وفاة أبيه وقد استطاع في بداية حكمه أن يقضي على فتنة اتباع "مزدك" وأعاد الاستقرار إلى الأوضاع في إيران، ثم أعاد تنظيم إيران إدارياً وحقق في شكاوي الناس، وحول الجيش غير النظامي إلى جيش دائم، ثم شيد قلاعاً وأسواراً متعددة للحيلولة دون هجمات البدو والهياطلة والخزر، كما اهتم بالزراعة والصناعة والتجارة وتمهيد الطرق، وعقد كسرى معاهدة مع الروم تعطي الفرصة للطرفين للتفرغ إلى إدارة شؤونهما، ولكنه سرعان ما نقض المعاهدة بعد أن استقرت الأمور في إيران وهاجم مناطق ما بين النهرين وعبر "الفارت" واستولى على "أنطاكية" فطلب الروم الصلح ووافق انوشيروان بالشروط التي ارتضاها، ولكن هذا الصلح لم يدم طويلاً، حيث زحف الجيش الإيراني إلى "لازيكا" واستولى عليها وحاصر مدينة "بترا"، ثم وافق على عقد هدنة مع الروم لمدة خمس سنوات، ثم بدلت هذه الهدنة بصلح مدته خمسون سنة عام 562 م، واستفاد أنوشيروان في صلحه مع البيزنطيين فأغار على مملكة الهون البيض وقتل ملك الهياطلة خلال الحرب ونجح في أن يجعل نهر جيحون هو الحدود الشمالية الشرقية لإيران فصارت باختر وطخارستان وزابلستان ورخج جزءا من إيران، وقد استطاع أنوشيروان أيضاً أن ينتصر على الخزر ويمنع خطرهم، كما أرسل جيشاً للاستيلاء على اليمن فاستولى على "عدن"، وعندما نقض الروم معاهدة الصلح مع إيران خاض حرباً مع بيزنطة استمرت من عام 572 حتى 579 م كانت الغلبة فيها لإيران واضطر إمبراطور بيزنطة إلى عقد هدنة مدتها عام في مقابل مبلغ كبير من الذهب.

      تولى هرمز الرابع الحكم بعد أبيه عام 579 م واستمر في محاربة بيزنطة دون نجاح كبير، وقد ثار ضده قائده "بهرام جوبين" وعزله ووضع ابنه خسرو برويز مكانه ثم قتل "هرمز الرابع" وأعلن نفسه ملكاً على إيران، لكن خسرو استعان بالإمبراطور البيزنطي وتمكن بمساعدته من العودة لإيران والجلوس على العرش وهرب "بهرام جوبين" إلى بلاد الترك، لكن سرعان ما دب الخلاف بين "خسرو بروز" وبيزنطة ونشبت الحرب بينهما في عام 602 م ونجح خسرو في استعادة أرمينية والاستيلاء على أديسا (الرها) ثم الاستيلاء على "قيصرمة" ووصل إلى البسفور عام 610 م، ثم أغار على الشام واستولى على انطاكية ودمشق ثم على بيت المقدس، ثم أرسل أحد قواده إلى مصر فدخل الإسكندرية عام 919 م، وقد استولى أحد قواده على ولايات آسيا الصغرى حتى وصل إلى "كالسدن" بالقرب من القسطنطينية عام 617 م، لكن الروم بقيادة هرقل عادوا إلى حرب الإيرانيين وانتصروا عليهم بالقرب من أرمينية ثم قام هرقل بملاقاة الإيرانيين في "أذربيجان" وانتصر عليهم، ثم أغار على مدن إيران وخرب معابد النار ومنها بيت نار "آذر كشتاسب" الشهير عام 623 م، كما تمكن هرقل من هزيمة خسرو برويز في معركة "دستكرد" عام 627 م، وقد أدت هذه الهزيمة إلى خلع خسرو وسجنه حتى قتل عام 628 م.

      جلس "قباد الثاني" على العرش بعد خلع أبيه، وعقد الصلح مع بيزنطة، وقام بعدة إصلاحات، وامتد حكمه سنتين وعدة أشهر حتى مات بالطاعون.

      تولى "أردشير الثالث" الحكم بعد أبيه وهو في السابعة من عمره 629 م مما جعل قائده "شهر براز" يتمرد عليه ويعزله ويجلس مكانه على العرش حتى خرج عليه كسرى بن قباد وقتل على يد جنود بهرام، وجلس كسرى الثالث حفيد هرمز الرابع على العرش عام 629 م ثم تولى بعده "جوان شير" بن "خسرو برويز" 629 م، ثم بورانداخت ابنة خسرو برويز عام 930 م، ثم تولى "كشتاسب بنده" أخو كسرى الثالث عام 631م ثم آدزميدخت ابنة خسرو 631 م، ثم هرمز الخامس 631 م، ثم خسرو الرابع 631 م، ثم فيروز الثاني 631 م، ثم خسرو الخامس 631 م، ثم يزدجرد الثالث 632 م.

إيران في نهاية عهد الدولة الساسانية

      كانت إيران في نهاية عهد الدولة الساسانية تعاني من كثير من المشاكل التي خلفتها حروبها المتصلة مع جيرانها خاصة تلك التي خاضتها مع دولة الروم الشرقية وأصبحت في حالة من التدهور الشديد حيث فقدت كل الأشياء التي تميز بها العرب المسلمون، ويمكن وصف الحالة التي وصلت إليها إيران في ذلك الوقت بما يلي:

  1. الاضطرابات العقائدية نتيجة تشتت المذاهب والأديان بين الزردشتية والمانوية والمزدكية والمسيحية واليهودية والبوذية.
  2. الاضطرابات السياسية والنفوذ الكبير الذي كان يتمتع به العظماء ورجال الدين ورجال البلاط وكبار رجال الدولة، مع عدم وجود ملك مجرب قوي الإرادة يتولى زمام الأمور ويقوم بالإصلاحات ومما يؤكد ذلك تولي اثنى عشر ملكاً خلال أربع سنوات (628 ـ 632 م).
  3. ضعف الجيش وتمزقه نتيجة حروب خسرو برويز التي لم يكن لها نتيجة لصالح إيران.
  4. سخط الشعب وضيقه بسبب دفع الضرائب التي فرضها عليه "برويز" فضلاً عن إجبار أفراده على دخول الجندية.
  5. تدهور الزراعة والصناعة والتجارة نتيجة تفشي الفساد والظلم وكثرة الحروب.

الحروب العربية ـ الإيرانية في نهاية عهد الدولة الساسانية

1. واقعة ذي قار: (611 م)

رغم أن العادة جرت على اعتبار معركة القادسية المعركة الأولى للعرب مع إيران في ذلك العهد، ولكن إذا أخذنا في الاعتبار نتائج المعركة فإن معركة ذي قار هي الأولى، حيث سمع خسرو برويز أثناء حربه مع الروم أن النعمان بن المنذر ملك الحيرة له ابنة رائعة الجمال فأراد أن يتزوجها لكن النعمان رفض فغضب خسرو، وقرر إرسال جيش لتأديبه، وبمجرد أن علم النعمان بهذا ذهب إلى بني شيبان وأودع ممتلكاته عند رئيسهم وذهب إلى خسرو يعتذر له، لكن خسرو لم يقبل عذره وقتله، ثم طلب من شيخ الشيبانيين كل أموال النعمان فامتنع فأرسل كسرى جيشاً قوامه أربعون ألف رجل حتى ينفذ أوامره، وحدثت عدة معارك بين العرب والإيرانيين تمكن العرب في نهايتها من هزيمة الإيرانيين، ورغم صغر حجم المعركة إلا أنه كان لها نتائج هامة منها أن العرب قد أدركوا لأول مرة أنهم يستطيعون التغلب على جيش إيران.

2. موقعة ذات السلاسل: (633 م) (12هـ)

توجه خالد بن الوليد قائد المسلمين الشهير ناحية الشمال عام 12هـ ودخل منطقة تقع بالقرب من الخليج والكويت الحالية وهي حدود إيران آنذاك، وتعرف باسم "الحفير"، وطلب من هرمز حامي حدود تلك المنطقة الدخول في الإسلام أو دفع الجزية، فرفض وتبارز معه خالد وقتله، ثم هجم العرب على الإيرانيين وهزموهم، وقد أطلق على هذه الموقعة ذات السلاسل، ويرجع السبب في ذلك ـ كما يذكر الطبري ـ إلى أنهم أعدوا السلاسل حتى يقيدوا بها أسرى المسلمين. وسلك خالد بعد ذلك طريق ساحل الفرات واتجه إلى أعلى ونشبت معركة ضارية في "أليس" بين قوات إيران والمسلمين، وقد انتصر المسلمون في نهايتها، ثم كان النصر حليف خالد أيضاً في مدينة رومية تعرف باسم "فيراز"، وتعتبر معارك خالد مع الإيرانيين معارك حدود لأنه حارب فيها حاميات الحدود والمحافظين عليها.

3. موقعة الجسر: (634 م) (13هـ)

كلف "رستم فرخ هرمز" حاكم خراسان بقيادة حملة من قبل البلاط الإيراني لوقف الغارات العربية على الحدود الإيرانية فجهز جيشاً بقيادة "بهمن جادويه" وأرسله إلى الحدود، وعندما وصل هذا الجيش بالقرب من بابل أقام المسلمون قنطرة من القوارب بأمر "أبي عبيدة مسعود الثقفي" الذي كان يرأسهم، وعبروا الفرات، ثم اشتبكوا مع الإيرانيين ولما جفلت الخيل من فيلة الجيش الإيراني ترجل المسلمون مما أدى إلى هزيمتهم، ولكنهم عادوا وانتصروا في "البويب" في العام التالي.

4. موقعة القادسية: (635 م/ 14هـ)

كانت القادسية تقع بالقرب من مكان عرف بعد ذلك باسم كربلاء، وهناك التقى العرب المسلمون بالجيش الإيراني، ونشبت معركة استمرت أربعة أيام تبادلوا خلالها النصر والهزيمة، وفي ليلة اليوم الرابع انقسم المسلمون إلى مجموعات متعددة وأغاروا ليلاً على الجيش الإيراني واستمرت المعركة طوال الليل وفي اليوم الرابع نشبت معركة شديدة مزق فيها المسلمون قلب الجيش الإيراني وقتل "رستم" قائد الإيرانيين ووقع "علم كاويان" في يد المسلمين وصار النصر حليفهم. وبعد هذا النصر منح سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين راحة لجنده لمدة شهرين بأمر عمر بن الخطاب، ثم قام بالاستيلاء على البلاد الواقعة بين الفرات ودجلة.

في عام 16هـ تحرك جيش المسلمين قاصداً المدائن، وبمجرد أن علم يزدجر الثالث إمبراطور إيران باقتراب المسلمين من دجلة غادر "طيسفون"، واستولى سعد على "وه اردشير" (سلوكية) وعبر بجيشه نهر دجلة من مكان غير عميق ودخل "طيسفون" وغنم المسلمون غنائم كثيرة.

5. موقعة جلولاء: (637 م/ 16هـ)

أراد سعد في بداية الأمر أن يتعقب جيش إيران، غير أن عمراً أمره بقضاء الصيف في المدائن، وبعد فترة علم سعد أن يزدجرد جمع جيشاً في حلوان (قلعة في جبال كردستان) وأنه يستعد لحربه فزحف إليه جيش المسلمين ودارت المعركة في جلولاء بالقرب من حلوان وانتصر العرب المسلمون وأصابوا غنائم كثيرة. ثم قام سعد بالاستيلاء على مدن ما بين النهرين، وفي السنة التالية شيد المسلمون مدينتي الكوفة والبصرة (17هـ)، ثم اتجه المسلمون صوب البحرين وتقدموا على ساحل الخليج منتصرين حتى أوقف الإيرانيون زحفهم هناك فعادوا إلى البصرة، ثم قامت معركة بين حاكم خوزستان الإيراني وبين العرب كان من نتيجتها استيلاء العرب على الأهواز عام 19هـ، واستمر حصار مدينة "شوشتر" 18 شهراً حتى سيطر عليها المسلمون وأسر "الهرمزان" حاكم خوزستان.

6. موقعة نهاوند: (31هـ/ 642 م)

تقدم جيش بقيادة النعمان بن مقرن إلى حلوان ليهاجم الري من هناك فوصلت إليه الأخبار بوصول جيش يزدجرد إلى نهاوند فأسرع النعمان على رأس ثلاثين ألف مقاتل إلى هناك، ونشبت المعركة وحارب الإيرانيون خلف الخنادق ولم يحاربوا في السهول إلا قليلا، لذلك طالت الحرب، وتظاهر النعمان بالانسحاب فتعقبه "فيروزان" قائد الجيش الإيراني، وعندما خرج الإيرانيون من خنادقهم حمل عليهم المسلمون حتى قضوا عليهم وقتل النعمان في المعركة وحل محله حذيفة وانتهى القتال بنصر مؤزر مما جعل العرب يسمون هذه الموقعة "فتح الفتوح".

7. الاستيلاء على ولايات إيران وموت يزدجرد

بعد معركة نهاوند وخلال عشر سنوات خضعت أصفهان وفارس وأذربيجان (حتى در بند) والري وسيستان ومكران للعرب بعد عدد من المعارك في حين حافظت طبرستان على استقلالها حتى منتصف القرن الثاني الهجري (769 م) ثم استولى العرب على خراسان بعد استيلائهم على الولايات في طريقها.

قتل يزدجرد بعد عشر سنوات من موقعة نهاوند (31هـ ـ 652 م) إذ انتقل من الري إلى أصفهان، ثم إلى مكران، ثم إلى بلخ ومرو، وحاول الاتصال "بفغفور" ملك الصين طلباً للمساعدة وبالخاقاق ملك الترك ولكنه لم يجد الاستجابة، وعندما علم بسوء نية حاكم مرو تجاهه، فر هارباً ولجأ إلى طاحونة بالقرب من مرو يقضي فيها الليل إلا أن الطحان طمع في ملابسه الفاخرة وجواهره فقتله، ويقال إنه دفن في فارس.

بلغت مدة حكم الأسرة الساسانية في إيران 416 عاماً، وتعتبر موقعة نهاوند هي النهاية الواقعية لحكم هذه الأسرة حيث سارعت جماهير الشعب الإيراني إلى الدخول في الإسلام وقبول ولاية العرب المسلمين، وقد صارت إيران قاعدة انطلاق للفتوحات الإسلامية في الشرق وولاية من أهم الولايات الإسلامية.



[1]  الملحمة القومية للإيرانيين كتبت خلال عصور مختلفة بأيدي كتاب مجهولين، وقد جمعها أبو منصور المعمري نثراً ونظمها الشاعر أبو القاسم الفردوسي شعراً، وقد ضاعت أجزاء منها، وتتحدث عن تاريخ ملوك الفرس وسيرهم منذ العصر الأسطوري وحتى الفتح الإسلامي، وقد حاول بعض الكتاب استكمالها إلى العصر الحديث، ولكن ظلت شاهنامة الفردوسي هي صاحبة الاسم المعروف.

[2]  يعرف الأكمينيون في المصطلح الفارسي باسم هخامانشيان.

[3]  يعرف في الكتب الفارسية باسم `خشيارشا.

[4]  تكتب هذه الكلمة في الكتب الفارسية "سلوكي".

[5]  يعرف في الكتب الفارسية باسم "مهرداد".

[6]  يعرف في الكتب الفارسية باسم `فرهاد.

[7]  تعرف في الكتب العربية باسم "المدائن".

[8]  يكتب في المصادر الفارسية القديمة "آرث خشتر".