إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الهيئات التنصيرية وأثرها في العالم الإسلامي









المصادر والمراجع

سابعاً: مقاومة الحركة التنصيرية في مصر

في منتصف يونيه 1933م أعلن الشيخ "مصطفى المراغي" عن تأليف جمعية لمقاومة التبشير، وكان الشيخ لا يزال غاضباً من حرمانه من مركزه شيخاً للأزهر، ولم يكن هدفه من تشكيل هذه اللجنة، ليس الحفاظ على سلطته الأدبية أمام الرأي العام فحسب، ولكن، أيضاً إحراج شيخ الأزهر "الظواهري" الذي انتقدته بعض الصحف؛ لتخاذله في موقفه ضد الإرساليات التنصيرية، وكذلك مضايقة الحكومة، وهذا ما جعل الشيخ "الظواهري" شيخ الأزهر يؤلف هو الآخر لجاناً في جميع أنحاء القطر لجمع التبرعات لمناهضة هؤلاء المبشرين، ولنشر الوعظ الديني الإسلامي بين الناس في المساجد وغيرها، ولبناء الملاجئ لإيواء الأطفال المتشردين الشاردين، ويبدو أنه حدث نوع أو شكل من التوفيق بين الشيخ "المراغي" والشيخ "الظواهري، والتقى الرجلان من أجل تحقيق غاية واحدة هي مقاومة ومحاربة التنصير، الذي عجزت عنه الحكومة.

1. الأعضاء المؤسسون

سرعان ما انضم إلى عضوية جمعية مقاومة التنصير، لفيف من رجال الدين الإسلامي، والمفكرين والمثقفين، وكثير من شباب الأزهر. فكان من أعضاء الجمعية الدكتور "محمد حسين هيكل، وعبد الحميد سعيد، رئيس جمعيات الشبان المسلمين، ومحب الدين الخطيب، رئيس تحرير مجلة الزهراء الشهرية، ومجلة الفتح الأسبوعية، والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ أحمد إبراهيم أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق، وأحمد الغمراوي، ويحيى الدرديري، ومحمد علي فضلي، ومحمد الههياوي، والصفتي ومحمد عبد الوارث الصوفي، من الأزهر، ومحمد فهمي حسين عبدالوهاب، وطه عبد الباقي سرور نعيم سكرتير تحرير مجلة الإسلام والتصوف، فيما بعد، والشيخ حسن البنا، إذ كان عضواً بارزاً فيها. والحقيقة أن وجود الشيخ "المراغي" بالجمعية قد زادها قوة في نظر الرأي العام، في ذلك الوقت، وتألفت لجان الأقاليم للجمعية، وكانت مقار هذه اللجان، غير مستقرة، وفى بعض الأقاليم كانت غير معلومة. وكانت غالبية مقار لجان الأقاليم، دوراً أو مقار الشبان المسلمين. كما كانت قيادات الجمعية في القاهرة، تجتمع في دار الشبان المسلمين.

2. أهداف الجمعية

وتمثلت أهداف الجمعية، في محاربة الإلحاد، وإرسال المبعوثين لدحض حجج المنصرين في اجتماعاتهم العامة؛ وإصدار المنشورات، التي تفضح أعمال الإرساليات التنصيرية، وحث المسلمين على مقاومة المنصرين، وتنويرهم بأساليب المنصرين الخبيثة، وجمع التبرعات المالية من القادرين، من أجل إيواء الأطفال المتشردين ببناء الملاجئ لهم والمدارس الإسلامية، لتعليم أبناء المسلمين فيها. بعيداً عن مدارس الإرساليات اللعينة.

3. مصادر تمويل الجمعية

وكانت الجمعية تستند في تمويلها إلى ذوي اليسر من أعضائها، ومؤيديها. وقد بدأ الاكتتاب الشيخ "الظواهري"، وتبرع بمائتي جنيه فتتابع العلماء جميعاً بالتبرع، ثم تبرع الأهالي بمبالغ مختلفة. وكان الأمير "عمر طوسون"، الذي كان يشمل كل جمعيات الشباب المسلمين بالرعاية، قد تبرع بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه، وقد تبرع أحد الأعيان من الصعيد بمبلغ عشرة آلاف جنيه، وهو "السيد مصطفى عمرو"، الذي كان يمتلك أربعة عشر ألف فدان، كما أوقف السيد "مصطفى عمرو"، من أملاكه، خمسمائة فدان لإنشاء ملجأ للفتيات، حتى تأوي إليه الفتيات الفقيرات اللاتي تضطرهن الحاجة إلى دخول الملاجئ الأجنبية، التابعة للإرساليات التنصيرية.

4. نشاط الجمعية وفروعها

وبدأت الجمعية في ممارسة نشاطها، فكانت منشوراتها تصف المنصرين بأنهم "ذئاب في ثياب حملان"، ووصفت نشاط الإرساليات بأنه إجرامي. وجاء في أحد هذه المنشورات "فوجئ الإسلام اليوم بعدة لطمات مخيفة وطعنات قاتلة من نواحي مختلفة، كان أشدها خطراً وأكبرها بلاءً وأعظمها مصيبة سيل التبشير، الذي تدفق علينا من ربوع الغرب، فسمم العقول، وضلل الأفئدة بنفثاته السامة، ولذعاته القاتلة، ودعايته الواسعة النطاق، التي يراد منها هدم كيانه، وتقليص مجده، وأفول نجمه، ودسوا السم في الدسم. وعلماؤنا وحكوماتنا في غيهم يعمهون وفى نومهم يغطون، إلخ"

في نهاية يونيه عام 1933م، تقدمت الجمعية بعريضة للملك فؤاد، وللقائم بأعمال رئيس الوزراء "محمد شفيق باشا"، تطالب باتخاذ الإجراءات الضرورية للسيطرة على نشاط الإرساليات التبشيرية، وتقييد حركتها بين أوساط المسلمين. وقد ناشدت الجمعية الشعب المصري، مقاطعة كل المؤسسات والمراكز التابعة للإرساليات التنصيرية، وإن كانت في أحد منشوراتها "طلبت منهم الالتزام والهدوء". وبعد ذلك أرسلت الجمعية احتجاجا، شديد اللهجة، إلى كل ممثلي الدول الأجنبية في القاهرة، تطلب منهم أن يستخدموا نفوذهم لحل مشكلة البعثات التبشيرية من جذورها في مصر.

وعلى صفحات "السياسة"، هاجم الشيخ "المراغي"، رئيس الجمعية، الحكومات المصرية، وبعض كبار العلماء من العلمانيين، لتخاذلهم في التصدي لإرساليات التنصير. كما أن الدكتور "محمد حسين هيكل"، رئيس تحرير "السياسة"، هاجم الإرساليات التنصيرية، ونشاطها الهدام. وقد أتاح، بصفته رئيس تحرير السياسة، وعضواً بارزاً في الجمعية، الفرصة لكل من أراد أن يفضح الإرساليات التنصيرية خلال شهر يوليه 1933م. وفى الوقت نفسه ادعت "الإيجيشيان جازيت"، أن الجمعية تألفت من أجل أن يستخدمها الشيخ "المراغي"، سلاحاً سياسياً، للنيل من خصومه، وردت عليها صحيفة "البلاغ" بأن الجمعية ليس لها أي هدف سياسي، بدليل أن أعضاءها يمثلون قطاعاً عريضاً ومتبايناً من القوى الوطنية، وذكرت "البلاغ"، أن "عبدالرحمن عزام"، أحد المتحمسين للقضايا العربية، كان عضواً نشيطاً في الجمعية. ورفضت "البلاغ" ما ادعته "الجازيت".

وعندما أخذ نشاط جمعية محاربة التنصير، يلقى تأييداً شعبياً منقطع النظير، خشيت الأحزاب السياسية العلمانية، من ضخامة هذا التأييد الشعبي للجمعية، فاتهمها "حزب الوفد" العلماني بأنها تعمل على تحقيق أهداف حزبية سياسية، ومع أن الجمعية حصرت نشاطها الإسلامي ضد التنصير ومحاولاته، وبمساعدة لفيف من العلماء والمثقفين، وطلاب الأزهر، الذين كانوا ينتمون لحزب الأحرار الدستوريين؛ فليس معنى هذا أن الجمعية الدينية، التي قامت من أجل مهمة إسلامية بحتة، كانت تبغي تأليف حكومة دينية أو قومية، كما كان البعض يدعي، وهذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة. ويؤكد ذلك، شاهد من أهلها، فقد عبر أحد المسؤولين في دار المندوب السامي البريطاني، عن شكوكه في أن هناك مصلحة ما في استخدام الفروع الإقليمية لجمعية مقاومة التبشير فيما بعد، لتكوّن أساساً تنظيماً حزبياً وقال: "إن هذه الفروع الإقليمية لا يمكن أن ترقى إلى فروع التنظيمات الحزبية المعروفة".

وفى ذلك الوقت، كان هناك لفيف من علماء الدين الإسلامي، لا يهتمون بنشاط هذه الإرساليات التنصيرية، وقد كتب بعض هؤلاء في الصحف يقولون: "إن الحكومة لا تستطيع أن تفعل شيئاً إذا لم يثبت أن الإرساليات تستخدم الإرغام"، وكتب البعض الآخر يقول: "من الأجدر بالجمعية أن تشجع المسلمين أن يتبرعوا للمدارس الإسلامية" وقالت صحيفة "الاتحاد"، التي كان يكتب فيها عدد من هؤلاء: "إنه ليس هناك مشكلة خاصة بالإرساليات، حيث إنه ليس هناك دين يستطيع أن ينافس الإسلام". ولكن عندما تعاظم نشاط الجمعية، شعر هؤلاء العلماء، بأن موقفهم أصبح حرجاً للغاية، خاصة أن جماهير الشعب أخذت توجه لهم اللوم؛ كما أن بعض أعضاء الجمعية كانوا يهاجمون هؤلاء العلماء، وكان البعض يدعي، بأن الشيخ "الظواهري"، من بين هؤلاء العلماء.

ولكن الشيخ "الظواهري" شيخ الأزهر، كان قد أصدر في شهر يونيه 1933م، منشوراً باسمه، أشعل النار ضد الإرساليات التبشيرية. وكانت بنود هذا المنشور، في غاية العنف والحماسة ضد المنصرين. فقد حث فيه الحكومة على استئصال هذا المرض الخطير، واتهم المنصرين باستخدام الضغط والتعذيب.

5. موقف السلطات البريطانية من الجمعية

ولما رأت السلطات البريطانية، أن في هذا المنشور، دلالة قوية، على التضامن الإسلامي القوي، بين الشيخ "الظواهري" شيخ الأزهر وبين الشيخ "المراغي" رئيس جمعية محاربة التنصير، لجأ السامي البريطاني في القاهرة، إلى ضرب هذا التضامن الإسلامي بين الرجلين. ووضع إسفيناً لإطاحة التلاحم الذي سبب الكثير من القلق للإرساليات التنصيرية، وللوجود البريطاني نفسه في مصر. وأشاعت مصادر موثوق بها في دار المندوب السامي، "أن الشيخ المراغي، وجمعية مقاومة التبشير، قد سلبوا من الشيخ "الظواهري" شيخ الأزهر وأعوانه دورهم في حماية الإسلام، وربما دفع دار المندوب السامي، لهذه المقولة، أن منشور الشيخ الظواهري، كان فيه كلمات تشير بأصابع الاتهام إلى بريطانيا، بأنها هي التي تحمي هؤلاء المنصرين. ويبدو أن المندوب السامي، قد لفت نظر الحكومة المصرية، إلى موقف الشيخ الظواهري، الهجومي ضد "حكومة صاحبة الجلالة". فقد حدث أن تفاهمت الحكومة المصرية مع الشيخ الظواهري، وبعض معاونيه، لمدة ثلاثة أيام. وربما نجحت مساعي الحكومة؛ لأن الشيخ الظواهري، ومعاونيه، بدؤوا يخففون من حملتهم ضد التنصير، واتهامهم لبريطانيا بأنها وراء كل هذه المشكلات.

كما أن الصحف الحكومية، خرجت في شهر أغسطس عام 1933م، بخبر تشكيل مجلس حكومي من العلماء، كان على رأسه الشيخ الظواهري لدراسة المشكلة. ومع ذلك فإن أعضاء جمعية محاربة التنصير، كانوا يمارسون نشاطهم بجدية تامة، في التصدي لمحاولات الإرساليات التنصيرية، تحويل الصغار عن دينهم الإسلامي، وفي جمع التبرعات من الميسورين لإقامة الملاجئ والمدارس، وإن كان البعض يعتقد، بأن الحكومة هي التي شغلت أعضاء الجمعية بهذه المهمة الأخيرة، لإبعادهم عن الأمور السياسية، فإننا نؤكد أن أعضاء الجمعية لم يكن لهم أي طموح بشأن الوزارة.

وعندما اشتد اللوم على الشيخ الظواهري من جانب بعض أعضاء الجمعية، لسلبيته، أصدر في شهر سبتمبر عام 1933م، فتوى تدين بشدة المسلمين الذين يلحقون أبناءهم بمدارس الإرساليات الأجنبية التنصيرية. وقد وجدت هذه الفتوى قبولاً واستحساناً لدى أعضاء الجمعية، وكثير من أبناء الشعب المصري. وتدعي وثائق الإرساليات التبشيرية، بأن الشيخ الظواهري، لم يكن موفقاً في توقيت إصداره فتواه، وتستند الوثائق إلى أن "الجهاد" عندما نشرت الفتوى، استبعدت الفقرات، التي كانت موجهة ضد الإرساليات التبشيرية، وضد حكومة بريطانيا؛ لأن الحملة التي كانت ضد الإرساليات قد خفت حدتها. كما تستند الوثائق كذلك، إلى ما نشرته "البلاغ"، وهو أن في هذا الاستبعاد للفقرات المتطرفة، الدليل على تعاطف حزب الوفد، العلماني، مع الإرساليات التبشيرية. وإذا كانت "الوثائق الإرسالية"، تدعي عدم توفيق الشيخ الظواهري، في إصدار فتواه، تلك الفتوى التي جعلت أعداد الدارسين المسلمين بمدارس الإرساليات التنصيرية، تتناقص بصورة ملحوظة، فإنها في الوقت نفسه تؤكد أن وزارة الخارجية البريطانية لم تسرها هذه الفتوى، لا الفقرات التي كانت موجهة ضد الإرساليات التبشيرية فحسب، لذلك نجدها توجه برقية سرية لمندوبها السامي البريطاني في القاهرة مستر سيربيرس M.Lorain، وتطلب إليه فيها، أن يبلغ استياء حكومة جلالة الملكة، من فتوى الشيخ الظواهري وبيانه، لكل من الملك فؤاد، ورئيس الوزراء. وعلى الفور ناقش "لورين" هذه المسألة مع،"زكي الإبراشي باشا"، ورئيس الديوان الملكي، و"محمد شفيق باشا"، القائم بعمل رئيس الوزراء. كما تحدث "سيسل كامبل"، القائم بعمل المندوب السامي، مع محمد شفيق باشا، القائم بعمل رئيس الوزراء، وطلب إليه أن يبذل قصارى جهده، لإخماد الدعاية المناهضة للإرساليات التبشيرية، والتي تقوم بها جمعية مناهضة التنصير. وفى الوقت نفسه، كان "كوين بويد keaym. Boyd "، الذي أشرف على التحقيقات الخاصة بحوادث التنصير دائم الاتصال بالشيخ المراغي، للوقوف على نشاط جمعية محاربة التنصير، وقد أوصاه بالاعتدال. مما سبق يثبت أن فتوى الشيخ الظواهري وبيانه، قد أزعج بالفعل حكومة لندن، والمجلس الأعلى للإرساليات التنصيرية، وإلا ما تحركت بريطانيا بهذا الثقل، في محاولة من جانبها لإحباط تحركات الشيخ الظواهري، وجمعية محاربة التنصير.

وتعترف وثائق الإرساليات التبشيرية نفسها، بانخفاض فعلي في عدد الملتحقين من أبناء المسلمين المصريين، بمدارس الإرساليات الأمريكية، بدرجة ملحوظة، والوثائق لا تذكر أعداداً، وإنما تذكر نسبة 5% من مدارس الجزويت. وبطبيعة الحال، يؤكد هذا التهرب من ذكر الأعداد، أنها ضخمة، سواء بمدارس الإرساليات الأمريكية، أو بمدارس الجزويت!

وأمام هذه الظاهرة، وهي انخفاض أعداد الطلاب بمدارس المنصرين، راحت جريدة "الجازيت" وجريدة "الإيجبيشيان ميل"، تشهران بشدة، بالصحافة المصرية؛ لأنها هي التي قادت الحملة السوداء ضد مدارس الإرساليات التبشيرية. وقد يَعجب البعض من أن الصحافة البريطانية والألمانية كانت تتابع، باهتمام شديد، نشاط جمعية محاربة التنصير، لدرجة أنْ قد أثيرت عدة أسئلة داخل مجلس العموم البريطاني، عن كيفية مواجهة نشاط هذه الجمعية، وما هي الخطوات التي ستتخذ لمواجهة هذه الحملة.

ولكن الذي يبدد هذا العَجب، أن ألمانيا، وهي معقل الحركة الاستشراقية، وبريطانيا، وهي التي تخشى على وجودها في مصر، في ذلك الوقت، كانتا متفقتين على حماية عمل المبشرين، بالإنجيل في وادي النيل، وتوصيل رسالة السيد المسيح إلى المصريين الذين يعيشون في الظلام.

6. الملك "فؤاد" يؤيد نشاط الجمعية

في نهاية عام 1933م راجت إشاعات، بأن الملك فؤاد يشجع الحركة المناهضة للإرساليات التنصيرية. مما جعل دار المندوب السامي البريطاني، تعلن، "إذا تمادت الحركة المعادية للإرساليات التبشيرية، فإن هناك خطراً للإضرار بطموحات مصر في الحصول على معاهدة مقبولة، وإنهاء الامتيازات الأجنبية".

7. رد الفعل لتأييد ملك البلاد للنشاط المناهض للمنصرين

ولا شك في أن الإشاعات التي راجت في كل إنحاء القطر المصري، بأن الملك يشجع نشاط جمعية محاربة التنصير، قد أعطت الصحافة مزيداً من الحرية، في فضح وكشف أساليب ونشاطات المنصرين. وأدى ذلك بطبيعة الحال إلى تعبئة الرأي العام الإسلامي في مصر، فاشتعلت الحماسة الدينية، وتحولت إلى مواجهة مباشرة ضد مؤسسات الإرساليات التنصيرية. ففي نهاية يونيه اقتحمت مجموعة من أعضاء جمعية مناهضة التبشير، كانوا مسلحين بقبضات حديدية منزل أحد المنصرين الأمريكيين في القاهرة، ونجحوا في تفريق الاجتماع الذي كان منعقداً، بعد أن اعتدوا على المجتمعين بالضرب، وكان يحضر الاجتماع قس قبطي، نال هو الآخر نصيبه من الضرب.

وفى "حي الأزبكية" بالقاهرة، وقعت اعتداءات متكررة، من جانب أعضاء جمعية مناهضة التبشير، ضد العناصر القبطية، التي كانت تؤيد وتناصر وتعاون المنصرين في أعمالهم. وفى "دمنهور" محافظة البحيرة تعرض راهب حاول تنصير بعض الشباب إلى الضرب المبرح. كما تكرر الاعتداء على القسس الأقباط، والبروتستانت، في "جرجا"، محافظة سوهاج، لمحاولتهم تنصير الأولاد الفقراء، والبنات اليتامى، واعتدي بالضرب كذلك على تاجرين مسيحيين، من "المحلة الكبرى"، كانا يروجان لكتب المنصرين، وكانا ينتميان إلى كنيسة تبشيرية، وفى يوليه اعتدي على أحد الكهنة في "شبرا" إحدى ضواحي القليوبية لتكرار سيره برفقة أحد المنصرين.

8. فشل التنصير في مصر

من الناحية العملية يمكن القول إن النشاط التنصيري لم يكن له أي أثر في مصر، بل على العكس باء بخيبة شديدة، حيث أدى إلى الاقتطاع من الكتلة السكانية المسيحية الأساسية، وهم الأرثوذكس وتحويل فئات منهم إلى كاثوليك أو إنجليين (بروتستانت)، بحيث أصبح المسيحيون في مصر متفرقين إلى ثلاثة مذاهب، وأكثر من 12 ملة، بعد أن كانوا على مذهب واحد وملة واحدة، وقد بدأت مقاومة التنصير في مصر بعد سقوط حكومة إسماعيل صدقي في سبتمبر 1933م، وتعيين عبد الفتاح يحيى باشا، فتزايد التيار الإسلامي السياسي، ومنعت الحكومة النشاط التنصيري خارج مقار الإرساليات، وتوزيع الكتيبات التي تدعو للتنصير، واستخدام العوامات في النيل للمنصرين، كما أنها منعت تعميد صغار السن، وتدريس الدين المسيحي للمسلمين في المدارس والمعاهد التابعة للإرساليات التبشيرية الأجنبية. واعتباراً من عام 1936م منعت الحكومة دخول المنصرين للبلاد؛ ولكنها لم تمنع التبشير؛ لأن مصر كانت لا تزال خاضعة للامتيازات الأجنبية، وكان عليها أن تظل كذلك، حتى توقع اتفاقية مؤتمر مونترو في عام 1937م، التي أوقفتها تدريجياً على مدى عشر سنوات، ولم يكن للحكومة المصرية مطلق الحرية في وضع قوانين أو تنفيذها حتى انتهاء الامتيازات الأجنبية، ولكن منذ اتفاقية "مؤتمر مونترو"، كان الإشراف الكامل للدولة على حركة المنصرين.

هكذا نشأت جمعية محاربة التنصير، وقاومت الإرساليات الأجنبية في مصر، خلال فترة تاريخية عصيبة، كان الاستعمار البريطاني خلالها يجثم على الصدور، وكان بامتيازاته الخاصة، التي حصل عليها على إثر الاتفاق مع السلطان العثماني، في 7 مايو 1830م، يقيد حركة القوى الإسلامية، ويحد من نشاطها في مقاومة الإرساليات التنصيرية.