إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الهيئات التنصيرية وأثرها في العالم الإسلامي









المصادر والمراجع

 أولاً: التنصير، مفهومه ونشأته

1. مفهومه

التنصير: نشاط تقوم به بعض المؤسسات النصرانية، في الغالب، وبعض الأفراد النصاري، أحياناً؛ لتغيير دين غير النصاري وضمهم إلى الديانة النصرانية، طبقًا للمذهب الذي ينتمي إليه المنصر، وهو الفرد القائم بعملية التنصير سواء بمفرده أو من خلال مؤسسة تنصيرية.

والتنصير، بهذا المعنى، يختلف عن التبشير؛ لأن التبشير يتم بين المذاهب النصرانية ذاتها، بهدف تغيير المذهب، الذي يدين به الفرد النصراني إلى مذهب آخر، ومرد ذلك إلى عظم التباين بين هذه المذاهب في العقيدة وقواعد الحياة، حتى أنها تكاد تصبح أدياناً مختلفة، وليست مذاهب يضمها دين واحد، والتنصير هو أصل التبشير وليس العكس كما يعتقد البعض، ذلك أن التنصير يعد جزءاً من عقيدة الفرد المسيحي، واتباعاً لمسيرة الرسل الإثني عشر (الحواريين)، الذين انتشروا في أصقاع الأرض يبلغون رسالة المسيح، طبقاً للعقيدة المسيحية، إذ بلغ التنصير المسيحي ذروته في عصر الشهداء، طبقا للرواية التاريخية المسيحية التي أينعت ثمارها باعتناق إمبراطور روما للدين المسيحي وتحول أوروبا إلى المسيحية في القرنين الرابع والخامس الميلاديين.

2. التنصير والتبشير

أدت الانشقاقات المتوالية، التي شهدتها الكنيسة من كونها أرثوذكسية الطابع؛ أي ملتزمة بالمحافظة على الأصول المتعارف عليها إلى كاثوليكية؛ (أي تتبع البابا الذي يعد محور الإيمان المسيحي والمؤثر الأكبر في حياة الفرد المسيحي)، ثم الانشقاق الذي شهدته الكنيسة المسيحية على يد مارتن لوثر والقديس كالفن، وظهور المذهب الإنجيلي أو البروتستانتي، الذي استطاع أن يوطد وجوده في أجزاء مهمة من أوروبا، مذهباً متحرراً من القواعد الثقيلة لكلٍّ من المذهبين الآخرين، وداعياً إلى إصلاح الفكر المسيحي والتخلص من القواعد الكنسية، التي لا تتفق مع العقل وتعارضه، وإخراج البشر من السيطرة المطلقة للبابا.

وفي ظل انقسام الكنيسة إلى ثلاثة مذاهب رئيسية، متنافسة بصورة ضارية، فقد نشبت عشرات الحروب، خاصة بين الكاثوليك والبروتستانت، تعين على الفكر الدعوي أن يتحرك مع هذا التنافس، فتغير مفهوم التنصير إلى مفهوم آخر هو التبشير، أي محاولة تغيير مذاهب النصاري أنفسهم.

والواقع أن التبشير بهذا المفهوم بدأ من الناحية الفعلية على يد البروتستانت؛ إذ كان وسيلتهم لزيادة عددهم، وترسيخ وجودهم في أوروبا، من أجل تفادي المصير المظلم، الذي كان يمكن أن يصلوا إليه، إذا ما ظلوا أقلية ضعيفة في وسط كاثوليكي جارف، كانت الإبادة تتهددهم في ظل النقمة البابوية عليهم.

ولا يزال التبشير بين النصاري أنفسهم سائداً حتى اليوم، وقد يكون المنصر مبشراً في الوقت ذاته، ومن النادر أن تجد مؤسسة مسيحية تختص بالتنصير دون التبشير؛ لأن الأصل واحد، لكن مجال النشاط هو الذي يختلف.

ومن ناحية أخرى، فإنه لابد أن ندرك أن التبشير لم يكن ليتم بوسائل سلمية ودعوية، كما كانت بداية التنصير، إذ علينا أن نشير هنا إلى نقاط أساسية، تمثل الأساس الفكري للشكل العنيف، الذي اتبعته الحركات التنصيرية والتبشيرية في نشاطاتها في مراحل كثيرة من تاريخها، وهي:

أ. تحول الدعوة للنصرانية من الإقناع بالوسائل السلمية إلى الإكراه والغصب، بعد اعتناق إمبراطور القسطنطينية للمسيحية، وكانت تلك هي الأصل التاريخي لفكرة محاكم التفتيش، التي يعود أصلها في الواقع إلى الفكر الأرثوذكسي وليس العكس.

ب. الحروب المتواصلة بين المذاهب المسيحية، خاصة بين البروتستانت والكاثوليك، وكان الهدف الأساسي لهذه الحروب هو فرض مذهب كل طائفة على الأخرى، وكانت جميعها حروب إبادة وليست بهدف الانتصار فحسب.

ج. الاستعمار الغربي لأقاليم العالم الأخرى، إذ كان العنف هو الأساس في عمليات التنصير، التي جرت، والتي تلتها بعد ذلك حملات التبشير في المناطق التي تنصرت.

ويمكن أن نعرّف التنصير من أقوال أصحابه القائمين به.

بأنه: منهج يسلكه المتخصصون لتنصير العالم، وتقديم تعاليم الإنجيل إلى غير المسيحي بوسائل مختلفة.

ولقد أفصح الدكتور (هاريسون) عن هذا الهدف بوضوح، في تحديده مهمة الإرسالية العربية الأمريكية بدول الخليج بقوله: "إننا نريدهم أن يصبحوا مسيحيين"، مستدلاً على ذلك بما جاء في الإنجيل "فلتذهب إليهم، وليكن لك أتباع بين جميع الأمم"، ويجب أن يعم الإنجيل كل الأمم.

ومهمة التنصير عند المسيحيين ضرورية، ولابد أن يتعاون للنهوض بها الأفراد والمؤسسات، وبلغ اهتمامهم بها حداً كبيراً، جعل بعضهم يعلن صراحةً عن طبيعة دعاته والعاملين في حقله بقوله "لقد أرسلناه لا للوعظ الاجتماعي، ولكن للخلاص، لا للحديث عن الاقتصاد بل للتبشير، لا للتقدم بل للصفح، لا للنظام الاجتماعي الجديد بل للمولد الجديد، لا للثورة بل للانبعاث الروحي… لا للتغني بالديمقراطية بل للإنجيل، لا للحضارة بل للمسيح، إننا سفراء ولسنا سياسيين".

ويتفق المسيحيون على أن التنصير ركن أساسي من أركان الكنيسة الحديثة، وله النصيب الأكبر من الميزانية السنوية في أموال الكنيسة.

3. نشأته

إن سياسة التنصير، والعمل على بث تعاليم الإنجيل بين المسلمين، ليست دعوة جديدة، وليست وليدة هذا العصر، بل هي قديمة قدم الإسلام نفسه، ويمتد تاريخها إلى عصر النبوة، ثم عصر الخلفاء الراشدين وبني أمية، ولا زالت مستمرة إلى يومنا هذا.

وأقدم وثيقة، سجلت لنا تاريخ الحوار المسيحي الإسلامي، هو القرآن الكريم، وما جاء فيه من آيات، سجلت لنا ما كان يدور بين الرسول r وأهل الكتاب في المدينة المنورة، وهذا الحوار كان يشتد أحياناً ليأخذ شكل الصراع، الذي يذهب إلى مستوى الكيد لقتل الرسول r، وكان يهدأ في بعض الأحيان فيأخذ شكل الحوار العقلاني، ولقد سجلت لنا سورتان كريمتان من سور القرآن الكريم ما كان يجري من حوار بين الرسول r وأهل الكتاب، وهما: سورة آل عمران، وسورة المائدة.

والذي يتدبر آيات الحوار الواردة في هاتين السورتين يقف على حقيقة هذا الصراع وحقيقة القضايا العقدية التي كانت تمثل موضوع هذا الحوار، وكيف فضح القرآن سرائر النصارى حين بدلوا وحرفوا ما أنزل الله على عيسى النبي u، وبيّن أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هو من عند الله؛ وما هو من عند الله؛ واستمرت موضوعات هذه القضية موضوع الحوار الديني خلال عصور الإسلام المتوالية، وتصدى لها علماء الإسلام عبر هذه القرون العديدة؛ فوضع الجاحظ رسالته في الرد على النصارى، وكتب القاضي عبد الجبار كتابه في دلائل النبوة، ونبه كل منهما على أساليب النصارى ومنهجهم في بث الدعاوى الإنجيلية بين المسلمين.

كما تصدى للقضية نفسها ابن حزم في كتابه العظيم "الفصل" والشهرستاني في كتابه "الملل والنحل" وعلي بن سهل بن الطبري في رسالته "الرد على النصارى"، وابن تيمية في "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"، وابن القيم في كتابه "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى"، وكذلك القرافي في كتابه "الأجوبة الفاخرة في الرد على الأسئلة الفاجرة"، والقرطبي في كتابه "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام".

وكثير من الرسائل، التي لا تكاد تحصى في هذا الغرض.

وفى العصور المتأخرة، كتب ـ رحمة الله ـ ابن خليل الرحمن العثماني الكيرانوي كتابه "إظهار الحق"، الذي يعد من أهم الكتب الحديثة، التي عرضت لهذه القضية بأسلوب رصين ومنهج علمي رائع، أفاد من كتب السابقين.

وأخذت هذه القضية تحتل مكاناً بارزاً في اهتمامات المفكرين المعاصرين، وفى الأقسام الأكاديمية للفلسفة الإسلامية والعقيدة في الجامعات العربية والإسلامية، ولعلها تمثل أهم قضايا الحوار القائم بين المسيحية والإسلام في المؤتمرات المتعددة، التي احتلت بؤرة الصراع القائم بين أهل الديانتين عبر التاريخ، وتحولت لغة الصراع إلى لون جديد من الحوار لتكون مظهراً جديداً من مظاهر العلاقة بينهما.

ولقد نشطت المؤسسات التنصيرية في العالم الإسلامي طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين، مما لفت أنظار المفكرين المسلمين إلى أن يتنبهوا إلى خطورة هذه القضية وسوء عاقبتها، وهذا ما دعا البعض إلى رصد المؤسسات، وتتبع تاريخ هذا النشاط التنصيري في القرنين الأخيرين.

وتكاد معظم المؤلفات الحديثة تتفق، على أن أول من بدأ بهذه المهمة في العالم الإسلامي الحديث، هو ريمون لول 1299 ـ 1300م المفكر الأسباني الذي استطاع أن يحصل على إذن الملك يعقوب صاحب أرغونة ليقوم بمهمة التبشير في مساجد برشلونة، بين صفوف المسلمين، محتمياً بالسلطة المسيحية في أسبانيا.

وذلك بعد أن فشلت الحروب الصليبية في تحقيق أحلام الغرب، وعودة بيت المقدس إلى السلطة الكنسية، وانتزاعه من أيدي المسلمين.

وكان قبل ذلك قد تأسس في سوريه وبلاد الشام جماعة الأخوة الكرملية أسسها أحد الصليبيين سنة 552هـ ـ 1157م، وأطلق عليها اسم جبل الكرمل.

وفى أوائل القرن الثالث عشر تأسست مدرسة الآباء الفرنسيسكان والدومينيكان، وأنشأت كل منهما لنفسها فروعها المختلفة في أنحاء سورية وبيروت.

وفى أعقاب الحروب الصليبية كتب أسقف "دومينكاني"، وهو "وليم الطرابلسي"، رسالة بشؤون المسلمين يوصى فيها باستخدام المرسلين (يعني المنصرين)، بدلاً من الجنود لاستعادة البلاد المقدسة.

ولقد أشار "فيليب حتي" إلى هذه الوثيقة الخطيرة في كتابه عن تاريخ سورية وفلسطين، وأوضح القول في العلاقة المتبادلة بين الاستشراق والتنصير، وأن هدف الفريقين واحد، وإن اختلفت الوسائل، فالمنصّرون يستفيدون من دراسات المستشرقين لخصائص البلاد وأحوالها وعاداتها وإمكاناتها؛ للتقرب إلى أهلها بأيسر السبل، والتعاون قائم بين الفريقين لاستقطاب أهل الرأي في المنطقة؛ للسيطرة عليها بكل الوسائل المتاحة.

ولقد ركزت حملات التنصير في العصر الحديث على أطراف العالم الإسلامي والمناطق النائية في شرق وجنوب آسيا وبصفة خاصة في إندونيسيا ووسط أفريقيا والمناطق الاستوائية، مستعينين في ذلك بالخدمات الاجتماعية، التي يقدمونها لأهالي هذه المنطقة كالمعونات الاقتصادية، والخدمات الطبية، ودور الأيتام وكبار السن، وتأسيس المدارس بمراحلها المختلفة، ومما يلفت النظر حقّاً أنه على الرغم من كل هذه الجهود المضنية فإن النتائج التي حصلوا عليها كانت مخيبة لآمالهم، مما دعاهم إلى معاودة النظر في الأسلوب والوسيلة مرات ومرات، ولعل أبرز ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر كلوادو سنة 1978م هو محاولة خلق البيئة الملائمة للمسلم، الذي يراد تنصيره، فبدلاً من التركيز على تنصير الفرد، أخذوا يركزون على تنصير البيئة والجماعة بصفتها وحدة متكاملة يراد تنصيرها، حتى لا يشعر الفرد بالغربة أو العزلة إذا ترك دينه منفرداً.

أما إذا كانت الجماعة كلها محور العمل التنصيري فإن الفرد لا يحس فيها بالغربة أو العزلة؛ لأنه حينئذ سيكون فرداً في جماعة متكاملة.

وهذا ما سعى المنصرون لتحقيقه في كثير من المناطق النائية الآن. ولعل من أبرزها ما يجرى في إندونيسيا وأفريقيا.