إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الحدود الشرعية









5

ثانياً: المبادئ الشرعية ومصادر التشريع في الإسلام

1. المبادئ الشرعية للحدود

وفيه أحد عشر مبدأً أساسياً، وهي:

أ. مبدأ المساواة

من خصائص الشريعة الإسلامية أنها تساوي بين الجميع في العقوبة، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأسود على أبيض، ولا لرئيس على مرؤوس، إلا بالتقوى.

وعلى هذا الأساس لا حصانة في الإسلام لأحد، فالجميع تحت القانون. بينما تستثني القوانين الوضعية والتشريعات غير الإسلامية الرؤساء، وأعضاء السلك الدبلوماسي، للدول الأخرى، ورؤساء الدول الأجنبية، وأعضاء الهيئة التشريعية، والأغنياء، والوجهاء، من قانون العقوبات أو بعضه[1].

ب. مبدأ الثبات

الحدود الشرعية والقصاص ثابتة على مر الأزمان، لا تتغير ولا تتبدل. وثباتها نابع من ثبات النصوص الشرعية، التي لا يجوز تبديلها، ولا تحريفها، ولا صرفها عن معانيها المرادة من الله، ورسوله المخبر عن الله؛ لأن الله هو المشرع، ولأنه يعلم الغيب فقد جعل هذه العقوبات صالحة للبشر على مر الأزمان.

ج. مبدأ المرونة

تتسم قواعد الشريعة بالمرونة، ولا يجوز تطبيقها إلا بشروط شرطها المشرع. فلا يُقام الحد في حالة جهل، أو نسيان، أو إكراه، أو اضطرار، أو عدم اكتمال الشهود، أو اختلافهم، أو لعدم قصد الجاني، كما قد يُؤجل الحد لمرض، أو حمل، أو ضعف، ونحو ذلك. فحد السرقة مثلاً، قد لا يستوفي شروطه، لظروف استثنائية طارئة كالمجاعة ونحو هذه الأحوال، والظروف التي تراعيها الشريعة الإسلامية، أثناء حدوث الجرائم الموجبة للحدود الشرعية، وقد يُشفع في الحد قبل وصوله إلى القاضي، أو الحاكم، أما القصاص فتجوز فيه الشفاعة حتى بعد وصول القضية إلى الحاكم. وهذا كله يقرره القرآن الكريم: ]لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[ (سورة البقرة: الآية 286). ]يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[ (سورة البقرة: الآية 185). ]وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[ (سورة الحج: الآية 78). وقال النبيr ، ]إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم2033).

د. مبدأ التدرج

كان الناس حديثي عهد بحياة الجاهلية، ولذلك كان التدرج وسيلة ضرورية لتسهيل الامتثال، وحين جاء النهي الجازم القاطع أقلع كل الناس عن فعل تلك الجرائم، مهما كلفهم الترك من مشاق وجهاد للنفس.

هـ. مبدأ التأجيل

الأصل أن العقوبة فعل مؤلم يُقام على الجاني فوراً، جزاءً له على جريمته، وحملاً لغيره على سلوك السبيل الصحيح. ومع ذلك لا يجوز في الشريعة الإسلامية تنفيذ الحد على الحامل، ولا النفساء، ولا المرضع، ولا المريض الذي يتضرر من العقوبة.

فكان تأجيل تنفيذ حد الحامل إلى أن تضع حملها وتأجيل حد النُفساء، إلى أن تقوى، وتأجيل حد المرضع، إن كان رجماً، إلى أن يستغني ابنها عنها، وتأجيل حد المريض إلى أن يبرأ، وكذلك تأجيل حد المسافر والمجاهد إلى أن يرجع. مما سيأتي مفصلاً أثناء الكلام على تنفيذ العقوبة في كل حد من الحدود الشرعية.

و. مبدأ درء الحدود بالشبهات[2].

ويعني ذلك منع تنفيذ الحد على مرتكبي جرائم الحدود، لشبهات بدت للقاضي، أثناء الدعوى والإجابة، أو استطاع معرفتها بخبرته وعلمه.

فلا يقام الحد على مدعي الجهل بالزنى مثلاً، إذا كان ببلاد غير إسلامية. ولا يقام الحد على من يظن أن بعض أنواع الخمر ليست من الخمر. ولا حد الردة على من ظن أن مقولته لا تستلزم ردة، ونحو ذلك.

كما أن هناك شبهات في شهادة الشهود، وشبهات في الإقرار، وشبهات في كل حد على حدة.

ز. مبدأ الرحمة

لا عقوبة ولا حد، عند الجهل، أو الإكراه، أو عند تخلف القصد الجنائي، كما أنه لا حد على السارق عند الاضطرار للسرقة، وفي المجاعات العامة، لعدم استيفاء شروط الحد في هذه الحالات. كما أن تأجيل الحدود لمرض، أو نفاس، أو حمل، أو تخفيف إقامة الحد على المريض يعدُّ من باب الرحمة كذلك.

ح. مبدأ تناسب العقوبة والجريمة

أحكم الإسلام وجوه الزجر الرادعة بحيث تتناسب مع الجنايات، وتتضمن مصلحة الردع والزجر، دون مجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع. فلم يشرع في القذف قطع اللسان، ولا القتل، ولم يشرع في الزنى الإخصاء أو قطع العضو التناسلي، وإنما شرع الله لهم بلطفه وإحسانه ما يزيل المفسدة، ويحمي به الناس من التظالم والعدوان، ولهذه الجنايات مراتب متباينة قلة وكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر، وخفته كتفاوت المعاصي كبراً وصغراً وما بينهما، فالنظرة المحرمة، والقبلة لا تساوي الفاحشة، ولا خدشة العود تساوي الضرب بالسيف، والشتم الخفيف لا يساوي القذف بالزنى، ولا سرقة اللقمة البسيطة بسرقة المال الكثير. فلما تفاوتت مراتب الجنايات، كان لا بد من تفاوت مراتب العقوبات، ولو تُرك الناس لعقولهم في ترتيب العقوبة على ما يناسبها من الجناية، لذهبوا في كل واد، وتشعبت بهم الطرق، وعظم الاختلاف، فكفاهم المولى مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى تقديرها نوعاً وقدراً، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة، ويليق بها من النكال.

ط. مبدأ اعتبار القصد الجنائي

تفرق الشريعة الإسلامية بين مرتكب الجريمة متعمداً، وبين مرتكبها عن طريق الخطأ، أو النسيان، أو الإكراه، أو الاضطرار.

وهذا التفريق مبني على أساس أن الله عز وجل قد رفع عن هذه الأمة الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه. فلا حد على من شرب المسكر دون قصد، ولا على من زنى بامرأة يظنها زوجته؛ بعد توفر ظروف معينة، ولا يُقام القصاص على القاتل خطأ، ولكن فيه الدية... وهكذا.

ي. مبدأ لا جريمة بلا نص شرعي

الأصل في الأشياء الإباحة؛ فلا شيء محرم إلا الذي ورد فيه نص بتحريمه، مثل تحريم الإسكار في كل مسكر ولو لم يُسم خمراً.

ومن ثم يعني هذا المبدأ أن الجريمة لا تعتبر جريمة، بلا تحذير عام منها، في نص منشور على الملأ.

ك. مبدأ التعزيز في حالة عدم ثبوت ما يوجب الحد

يبقى الحكم بالتعزير، عند عدم ثبوت الحد، هو البديل حتى لا يفلت الجاني من العقاب، وهي عقوبة أخف من الحد، لكن لها دور قريب منه، من حيث الزجر والتهديد. ويتفاوت التعزير بين الضرب، والتوبيخ، والتهديد أو السجن القصير، ونحو ذلك.

2. نظرية الشريعة في العقوبة

للمشرعين في العقوبة آراء مختلفة يمكن إيجازها في أربعة آراء:

أ. العقوبة الجزائية: ويرى دعاتها أن الجاني ينبغي أن ينال جزاء ما اقترفت يداه.

ب. العقوبة الرادعة: وينادي أصحابها بأن الغرض من العقوبة هو كف المجرم عن العود للإجرام.

ج. العقوبة الواعظة: ويرى أشياعها أن غاية العقوبة وعظ الناس؛ حتى لا يقعوا في الإجرام.

د. العقوبة المُصلِحة: ويرى دعاتها أن العقوبة ليست إلا علاجاً للمجرم، تعالجه به ليبرأ من حالته المرضية الشاذة، وهي ما تسمى بمرض الإجرام.

والعقوبات في التشريع الإسلامي تهدف إلى مصلحة الفرد في الحاضر والمستقبل، كما تهدف إلى مصلحة الجماعة، وإصلاح المجتمع.

ولعل من أبرز مقاصد الشريعة الإسلامية من تشريع العقوبات الشرعية ما يلي:

(1) أن تكون العقوبة بحيث تمنع الكافة عن الجريمة قبل وقوعها، فإذا ما وقعت الجريمة كانت العقوبة؛ لكي تؤدب الجاني على جنايته، وتزجر غيره عن التشبه به وسلوك طريقه. وفي هذا يقول بعض الفقهاء عن العقوبات: "إنها موانع قبل الفعل، زواجر بعده، فإن العلم بحكمها، يمنع الإقدام على الفعل، وإيقاعها بعده يمنع العودة إليه".

(2) إن حد العقوبة هو حاجة الجماعة ومصلحتها، وقد شُددت العقوبة فيما اقتضت مصلحة الجماعة التشديد، وخُففت العقوبة فيما اقتضت مصلحة الجماعة التخفيف.

(3) إذا اقتضت حماية الجماعة من شر المجرم المتكرر جرمه، وتعديه على حدود الله، استئصاله من الجماعة، أو حبس شره عنها، وجب أن تكون العقوبة هي قتل المجرم، أو حبسه عن الجماعة حتى يموت، ما لم يتب أو يصلح حاله.

(4) إن كل عقوبة تؤدي لصلاح الأفراد، وحماية الجماعة هي عقوبة مشروعة، فلا ينبغي الاقتصار على عقوبات معينة دون غيرها.

(5) يقول بعض الفقهاء في العقوبة: "إنها تأديب واستصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب". والعقوبات "إنما شرعت رحمة من الله تعالى بعباده وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم، والرحمة لهم، مثلما يقصد الولد تأديب ولده، ومثلما يقصد الطبيب معالجة المريض.

ترجع العقوبة في الشريعة إلى أصلين أساسيين، فبعضها يعني بمحاربة الجريمة ويهمل شخصية المجرم، وبعضها يعني بشخصية المجرم، ولا يهمل محاربة الجريمة، والأصول التي تعنى بمحاربة الجريمة الغرض منها حماية الجماعة من الإجرام، أما الأصول التي تعنى بشخص المجرم فالغرض منها إصلاحه.

وقد قامت نظرية العقوبة في الشريعة على الجمع بين هذين المبدأين المتضاربين. ولذلك قسمت الشريعة الإسلامية الجرائم إلى قسمين:

القسم الأول: الجرائم الماسة بكيان المجتمع: ويدخل تحت هذا القسم كل الجرائم التي تمس كيان المجتمع مساساً شديداً، وهي نوعان، لكل منهما حكم مختلف.

النوع الأول: جرائم الحدود: كالزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والحرابة، والردة، والبغي.

وقد وضعت الشريعة لهذه الجرائم السبع عقوبات محددة، ليس للقاضي أن ينقص منها أو يزيد فيها، أو يستبدل بها غيرها، أو يقبل شفاعة أحد فيها، فمن ارتكب جريمة منها أصابته العقوبة المقررة لها، دون نظر إلى رأي المجني عليه، أو إلى شخصية الجاني[3].

النوع الثاني: جرائم القصاص والدية: كالقتل العمد، والقتل شبه العمد، والقتل الخطأ، والجرح المتعمد، والجرح الخطأ. (اُنظر جدول جرائم الحدود والقصاص).

وقد وضعت الشريعة لهذه الجرائم عقوبتين هما: القصاص والدية في حالة العمد، والدية في حالة الخطأ، وحرمت على القاضي أن ينقص من هاتين العقوبتين، أو يزيد فيهما، أو يستبدل بهما غيرهما، كما حرمت على الحاكم أن يعفو عن الجريمة أو العقوبة، وعلى هذا فمن ارتكب جريمة من هذه الجرائم، أصابته العقوبة المقررة لها، دون نظر إلى ظروف الجاني وشخصيته.

وإذا كانت الشريعة قد حرمت العفو على الحاكم، فإنها قد أباحته للمجني عليه أو لوليه، فإذا عفا المجني عليه، أو وليه في العمد سقط القصاص، وحلت محله الدية إذا كان العفو الدية. فإذا كان العفو مجاناً سقطت الدية كذلك. وفي جرائم الخطأ يُسقِط العفو الدية، ويترتب على سقوط القصاص في العمد والدية في الخطأ جواز معاقبة الجاني بعقوبة تعزيرية، والعقوبات التعزيرية ينظر فيها إلى شخص المجني عليه وظروفه.

وظاهر مما سبق أن الشريعة تتجه أصلاً في جرائم القصاص والدية، إلى حماية الجماعة من الجريمة وإهمال شأن المجرم، وأنها لا تعني بشخصية الجاني وظروفه إلا إذا عفا المجني عليه أو وليه، وقد منحت الشريعة حق العفو المجني عليه أو وليه؛ لأن الجريمة، وإن كانت ماسة بكيان المجتمع، إلا أنها تمس المجني عليه، فإذا عفا المجني عليه أو وليه لم يعد ما يدعو لإهمال شأن المجرم والتشدد في حماية الجماعة؛ لأن أثر الجريمة يزول بالعفو فتصبح الجريمة غير خطرة، ولا تؤثر على كيان المجتمع[4].

القسم الثاني: الجرائم الأخرى: ويشمل هذا القسم كل الجرائم التي لا تدخل تحت القسم الأول، وهي غالباً ليست في خطورة جرائم القسم الأول، وهي متروكة لتقدير القاضي.

3. تعليل العقوبات الشرعية

أ. تعليل عقوبة الزنى

الزنى اعتداء على نظام الأسرة، ولو لم يُعاقب عليه، لكان لكل امرئ أن يشارك الآخر في أي امرأة شاء، وأن يدعي من يشاء، أو يتنصل ممن شاء من الأبناء، وينتهي الأمر بغلبة الأقوياء، وهزيمة الضعفاء، وتضيع الأنساب، ويحصل شقاء الآباء، والأبناء. وأخيراً فإن إباحة الزنى معناها الاستغناء عن نظام الأسرة، وهدم الدعامة الأولى من الدعائم التي تقوم عليها الجماعة.

ب. تعليل عقوبة القذف

جريمة القذف اعتداء على نظام الأسرة؛ لأن القذف في الشريعة قاصر على ما يمس الأعراض، ولأن القذف الماس بالأعراض هو تشكيك في صحة نظام الأسرة.

فمن يقذف شخصاً فإنما ينسبه لغير أبيه وبالتالي لغير أسرته، وإذا ضعف الإيمان بنظام الأسرة فقد ضعف الإيمان بالجماعة نفسها؛ لأن الجماعة تقوم على هذا النظام.

ج. تعليل عقوبة شرب الخمر

جريمة الشرب تؤدي إلى فقدان الشعور، وإذا فقد شارب الخمر شعوره فقد أصبح على استعداد لارتكاب السرقة والقذف والزنى وغير ذلك من الجرائم فضلاً على أن شرب الخمر يضيع المال ويفسد الصحة ويذهب العقل، والنظام الإسلامي يحرم شرب الخمر تحريماً قاطعاً، فإتيان هذه الجريمة اعتداء، من كل وجه، على الجماعة وهدم للنظم التي تقوم عليها.

د. تعليل عقوبة السرقة

السرقة اعتداء على نظام الملكية الفردية، ولو لم يُعاقب عليها لكان لكل امرئ أن يشارك غيره في طعامه وشرابه وكسائه ومسكنه وأداة عمله، وكانت الغلبة آخر الأمر للأقوياء، وكان الجوع والعري والحرمان للضعفاء، فإباحة السرقة معناها الاستغناء عن نظام الملكية الفردية، وعجز الأفراد عن الحصول على ضروريات الحياة، وسقوط الجماعة بعد سقوط أهم الدعامات التي قامت عليها.

هـ. تعليل عقوبة الحرابة

جريمة الحرابة إن اقتصرت على السرقة فهي اعتداء على نظام الملكية الفردية، وإن صحبها القتل، فهي كذلك اعتداء على حياة الأفراد المكونين للجماعة، وإن اقتصرت على ترويع المجني عليهم، فهي اعتداء على النظام الاجتماعي وعلى نظام الحكم؛ لأن كل جماعة ملزمة بحماية حياة الأفراد وتوفير الأمن لهم؛ لأن ذلك ضروري لبقاء الجماعة، وعدم تفككها.

و. تعليل عقوبة الردة

النظام الاجتماعي للمسلمين يرتكز على الإسلام، والردة معناها الكفر بالإسلام، والخروج على مبادئه، والتشكيك في صحته، ومن ثم لا يمكن أن يستقيم أمر الجماعة إذا وضع نظامها الاجتماعي موضع التشكيك، والطعن؛ لأن ذلك قد يؤدي في النهاية إلى هدم هذا النظام.

4. متى تقام الحدود الشرعية

متى قام المجتمع بما عيه تجاه الفرد من تربية صحيحة، وتمكين له من سد حاجاته الإنسانية المشروعة (المأكل، والمشرب، والملبس والمسكن)، بطرق ومسالك تسقط معها كل دعاوى الاضطرار؛ فقد أصبح لزاماً أن تقام حدود الله دون ترخص، ودون تهاون. ومن هنا تتضح أهمية التربية الاجتماعية وتوجيه الأفراد إلى المحافظة على القيم والأخلاق، وذلك بعد توفير سبيل العيش الكريمة لهم.فالإسلام قبل أن يقيم حد الزنا حرم الاختلاط الماجن، وحرص على تسهيل الزواج، ويسر أسبابه.

والسر في هذا أن بناء الفرد المسلم على العقيدة والأخلاق الإسلامية هو مقدمة ضرورية لإقامة البنيان الاجتماعي، الذي تحتل الحدود فيه مكان الحراسة والحفاظ على مقدساته.

بناء الفرد أولاً، وبناء المجتمع بمقوماته الإسلامية ثانياً، ثم يأتي الدور على إقامة الحدود سياجاً، وتحصيناً، وتأميناً لما تم تشييده، هذا ما حدث في إقامة مجتمع الإسلام لأول مرة.

5. مصادر التشريع العقابي في الإسلام

تصدر التشريعات الجنائية عند المسلمين من مصدرين أساسيين هما: القرآن الكريم والسنة النبوية، ومصدرين تابعين (على خلاف فيهما) هما الإجماع والقياس.

أ. القرآن الكريم

وقد ورد في القرآن الكريم الأمر بقطع يد السارق والسارقة، وجلد الزانية والزاني، والأمر بقتال الباغي، وجلد القاذف، والقصاص، والديات. ولم يرد في القرآن الكريم عقوبة شارب الخمر، ولا المرتد وإنما ورد تحريمهما، ولكن وردت عقوبتهما في السنة.

ب. السنة النبوية

وتعني أقوال النبي، r، وأفعاله، وتقريراته. وقد انفردت السنة ببيان عقوبة شارب الخمر (الجلد)، وعقوبة المرتد (القتل)، وعقوبة الثيب الزاني (الرجم)، وسيأتي مفصلاً أثناء تناول العقوبات الشرعية. كما جاءت السنة ببيان مقادير الديات، والجراحات ونحوها، إضافة إلى تأكيد السنة على العقوبات، والحدود المذكورة في القرآن الكريم.

فهذان المصدران (الكتاب والسنة) متفق عليهما بين المسلمين وإن اختلفوا ـ أحياناً ـ في فهم بعض النصوص، وتفسيرها، ونسبتها، وما أشبه ذلك.

ج. الإجماع

هو اتفاق جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية، في أي عصر من العصور، بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، على حكم شرعي. وعلى هذا فلا يعد اتفاق أكثرية المجتهدين دليلاً قاطعاً. وقد أفاد الإجماع في تفسير بعض النصوص، والأحكام الشرعية، والإجماع معتبر عند أغلبية المسلمين.

د. القياس

هو إلحاق ما لا نص فيه بما فيه نص في الحكم الشرعي المنصوص عليه لاشتراكهما في العلة، ثل إلحاق حكم التحريم على المخدرات، قياساً على الخمر؛ لاشتراكهما في العلة، وهي الإسكار. والقياس فيه خلاف كبير بين فقهاء الإسلام بين معتبر له كالشافعي، وجمع من أهل العلم، ومعارض له كابن حزم الظاهري.

وبناء على اعتبار القياس من عدمه، أو الاختلاف في فهمه، اختلف الفقهاء هل يُشترط الإقرار بأربع مرات في السرقة مثلاً، قياساً على الإقرار في الزنى، أم أن تكرار الإقرار خاص بالزنى؟ وهكذا.



[1] وتختلف الدول في ذلك، فبعضها لا يخضع هؤلاء، أو بعضهم للقانون مطلقاً، وبعض الدول تخضع هؤلاء، أو بضعهم لجزء من القانون فقط.

[2] والشبهة: مأخوذة من الالتباس والمشابهة، وهي (ما التبس أمره حتى لا يمكن القطع فيه أحلال هو أم حرام، أم حق أم باطل، والشبهة ثلاثة أقسام: 1. شبهة العقد: وهو ما وجد فيه العقد صورة لا حقيقة كالزواج. 2. شبهة الفعل: كأن يظن الرجل الحرام حلالاً، فيأتيه، كزواج الزوج من زوجته المطلقة بعد الطلقة الثالثة، يظنها حلالاً له. 3. شبهة المحل: كأن يطأ الزوج امرأة في فراشه، يظنها امرأته، ثم تبين له أنها أجنبية، لا تحل له. 4. شبهة الملك: كسرقة الشريك من مال الشركة، أو سرقة الشخص من مال ابنه.

[3] وقد اتجهت الشريعة في جرائم الحدود إلى حماية الجماعة من الجريمة؛ فشددت العقوبة وجعلتها عقوبة مقدرة، ولم تجعل للقاضي أو لولي الأمر سلطاناً على العقوبة، وعلة التشديد أن هذه الجرائم من الخطورة بمكان والتساهل فيها يؤدي حتماً إلى تحلل الأخلاق، وفساد المجتمع واضطراب نظامه وازدياد الجرائم، وهي نتائج ما ابتلي بها جماعة إلا تفرق شملها واختل نظامها وذهب ريحها، فالتشدد في هذه الجرائم، قُصد به الإبقاء على الأخلاق وحفظ الأمن والنظام.

[4] والواقع أن المجني عليه أو وليه لا يعفو إلا إذا صفح عن الجاني، أو رأى في الدية فائدة مادية يهمه الاحتفاظ بها، فعلة العفو هي إما الصفح أو الفائدة المادية التي تعود على المجني عليه وأوليائه، وكلاهما علة مشروعة تحلها الشريعة محل الاعتبار، لأن الصفح معناه القضاء على الخصومات والأحقاد، ولأن تفضيل الفائدة المادية على العقوبة البدنية معناه التسامح والصفح وإضعاف حدة الخصومات، ولا شك في أن حق المجني عليه أو وليه أن يكون أول من تعود عليه الجريمة بالفائدة إذا أمكن ذلك بعد أن أصيب منها وتحمل من آلامها ما لم يتحمله غيره.