إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الفتوى









المعنى الشرعي

الفصل السادس

ضوابط الفَتْوَى

الفَتْوَى إخبار عن حكم الله؛ لهذا كان إطلاق القول بالحل أو الحرمة، من غير ضوابط، افتراءً على الله، القائل في محكم كتابه: )وّلا تّقٍولٍوا لٌمّا تّصٌفٍ أّلًسٌنّتٍكٍمٍ الًكّذٌبّ هّذّا حّلالِ وّهّذّا حّرّامِ لٌَتّفًتّرٍوا عّلّى اللَّهٌ الًكّذٌبّ إنَّ الَّذٌينّ يّفًتّرٍونّ عّلّى اللَّهٌ الًكّذٌبّ لا يٍفًلٌحٍونّ( (النحل: 116).

تنحصر أهم ضوابط الفَتْوَى فيما يلي:

1. الرجوع إلى أهل التخصصات المختلفة في ما يتعلق بهذه التخصصات

تحدّث عددٌ من العلماء قديماً عن اختصاصاتٍ لا يكون الحكم فيها للمُفْتِي بل لصاحب التخصص؛ فتحدّث ابن تيمية وابن القيم، وقبلهما الإمام الجويني، عن أن الحكم في المصلحة في الأمور العسكرية يعود للعسكر، وتحديد بعض مسائل البيوع يعود لأهل السوق لا للمُفْتِي، وغيرها من المسائل. فحين يقرر العسكريون استخدام مصطلح ما مثل "العقيدة العسكرية"، لا ينبغي لعلماء الدين أن يعترضوا؛ لأن العسكريين يريدون إلزام أنفسهم وأفرادهم بضوابط وقواعد مهمة تصلح بها القيادة وأداء المهام المختلفة على أكمل وجه. وكذلك الشأن في أمور الطب والهندسة والحاسب والكيمياء والقوى النووية، وغير ذلك.

2. الاعتماد على الأدلة الشرعية

إن أول ما يجب توافره في الفَتْوَى؛ لتكون محلاً للاعتبار، اعتمادها على الأدلة الشرعية المعتبرة لدى أهل العلم، وأولها: كتاب الله تعالى، وثانيها: سُـنَّة رسوله.

فلا يجوز للمُفْتِي أن يتعداهما إلى غيرهما قبل النظر فيهما، ثم الاعتماد عليهما، كما لا يجوز مخالفتهما؛ اعتماداً على غيرهما، والأدلة على ذلك من كتاب الله ـ تعالى ـ كثيرة، منها: - قول الله ـ تعالى ـ: )وّمّا كّانّ لٌمٍؤًمٌنُ وّلا مٍؤًمٌنّةُ إذّا قّضّى اللَّهٍ وّرّسٍولٍهٍ أّمًرْا أّن يّكٍونّ لّهٍمٍ الًخٌيّرّةٍ مٌنً أّمًرٌهٌمً وّمّن يّعًصٌ اللَّهّ وّرّسٍولّهٍ فّقّدً ضّلَّ ضّلالاْ مٍَبٌينْا( (الأحزاب: 36). ومنها قوله ـ تعالى ـ: )يّا أّيٍَهّا الَّذٌينّ آمّنٍوا لا تٍقّدٌَمٍوا بّيًنّ يّدّيٌ اللَّهٌ وّرّسٍولٌهٌ وّاتَّقٍوا اللَّهّ إنَّ اللَّهّ سّمٌيعِ عّلٌيمِ( (الحجرات: 1). أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه. عن ابن عباس: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسُّـنَّة". والقول الجامع في معنى الآية: "لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو يفعل" (ابن ماجه: 9696).

ولهذا يحسن بالمُفْتِي أن يبين الدليل؛ لأن جمال الفَتْوَى وروحها هـو الدليل. وقد كان رسـول الله يُسأل عن المسألة، فيضرب لها الأمثال، ويشبهها بنظائرها. وكان أصحابه إذا سُـئل أحدهم عن مسألة، أفتى بالحجة نفسها، فيقول: قال الله ـ تعالى ـ كذا، وقال رسول الله كذا، أو فعل كذا، فيشفي السائل، ويبلغ القائل. وهذا كثير جداً في فتاويهم، لمن تأملها. ثم جاء التابعون، والأئمة من بعدهم، فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه، وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل، ثم طال الأمد وبَعُدَ العهد بالعلم، وتقاصرت الهمم، إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقــط، ولا يذكر للجواب دليلاً ولا مأخذاً، ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، بل وصلت الفَتْوَى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمـه، ولعله يحـدث للناس طبقة أخـرى لا يُدرى ما حالهم في الفَتَاوَى، والله المستعان. وقد حدثت في الناس تلك الطبقة التي تخوف منها، فراحت تتحيل على النصوص الشرعية بتعليلات وهمية، وتسوق ما يروق لها من تسويغات جدلية، استسلاماً لضغوط الواقع، واستعظاماً لبعض الأحكام الشرعية، وتحاول ـ في بعض الأحيـان ـ تأييد أقوالها بحجج واهية، ونصوص باطلة، لا تقوم بها حجة، ولا يفرح بها فقيه النفس، ولا يطمئن إليها تقي القلب.

وثالثها: الإجماع: وهو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول على حكم شرعي في واقعة.

* ومن الأمثلة:

الإجماع على أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسه فغيرت له طعماً أو لوناً أو ريحاً فهو نجس وعلى أن العقد على المرأة أثناء عدتها باطل، وعلى نجاسة الدم.

والإجماع حجة شرعية يجب اتباعها، ولا تجوز مخالفتها، والحكم الثابت بالإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا إلى نسخه، وليس للمجتهدين في عصر تالٍ أن يجعلوا هذه القضية موضع اجتهاد. والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله ـ تعالى ـ: )وّلّوً رّدٍَوهٍ إلّى الرَّسٍولٌ وّإلّى أٍوًلٌي الأّمًرٌ مٌنًهٍمً لّعّلٌمّهٍ الَّذٌينّ يّسًتّنبٌطٍونّهٍ مٌنًهٍمً( (النساء: 83). وقوله : )وّمّن يٍشّاقٌقٌ الرَّسٍولّ مٌنً بّعًدٌ مّا تّبّيَّنّ لّهٍ الًهٍدّى وّيّتَّبٌعً غّيًرّ سّبٌيلٌ الًمٍؤًمٌنٌينّ نٍوّلٌَهٌ مّا تّوّلَّى وّنٍصًلٌهٌ جّهّنَّمّ وّسّاءّتً مّصٌيرْا( (النساء: 115).

ورابعها: القياس: وهو إلحاق واقعة، لا نص على حكمها بواقعة، ورد نص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص؛ لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم. وهو حجة شرعية على الأحكام العملية عند جمهور الفقهاء، بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أو إجماع، وثبت أنها تساوي واقعة نُصَّ على حكمها في علة هذا الحكم، فإنها تقاس بها، ويُحكم فيها بحكمها، ويكون هذا حكمها شرعاً، ويسع المكلف اتباعه والعمل به.

* ومن الأمثلة:

 قياس المخدرات بكافة أشكالها على الخمر، فالخمر أصل؛ لأنه ورد نص بحكمه وتحريمه، وهو قول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( (المائدة 90). فدلّ هذا النص على حكم الأصل، وهو التحريم. وعلّة الحكم هي وصف الإسكار في الأصل. وهذه العلة متحققة في الفرع وهي المخدرات بكافة أشكالها. ولذا نلحق بالأصل في الحكم ، فنعدٍّي حكم الأصل، وهو التحريم، إلى الفرع، ونقول: يحرم تعاطي المخدرات قياساً على الخمر.

 والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله ـ تعالى ـ: )يّا أّيٍَهّا الَّذٌينّ آمّنٍوا أّطٌيعٍوا اللَّهّ وّأّطٌيعٍوا الرَّسٍولّ وّأٍوًلٌي الأّمًرٌ مٌنكٍمً فّإن تّنّازّعًتٍمً فٌي شّيًءُ فّرٍدٍَوهٍ إلّى اللَّهٌ وّالرَّسٍولٌ إن كٍنتٍمً تٍؤًمٌنٍونّ بٌاللَّهٌ وّالًيّوًمٌ الآخٌرٌ ذّلٌكّ خّيًرِ وّأّحًسّنٍ تّأًوٌيلاْ( (النساء: 59).

3. تعلق الفَتْوَى بموضوع الاستفتاء

لم يشرع الإفتاء إلاّ للإجابة على التساؤلات، وحلّ ما يعرض للإنسان من مشكلات. غير أن المُفْتِي إذا توقع من السائل استغراباً للحكم، فله أن يمهد له بمقدمة حتى يسلك الحكم الشرعي إلى قلبه، فيتقبله بقبول حسن؛ ويدل على ذلك قصة نسخ القبلة؛ فإنها لمّا كانت شديدة على النفوس جداً، وطَّـأ الله ـ سبحانه وتعالى ـ قبلها عدة موطئات، منها: ذكر النسخ، ومنها: أنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله، ومنها: أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم؛ فعموم قدرته، وعلمه، صالح لهذا الأمر الثاني كما كان صالحاً للأول. ويجوز أن تكون الفَتْوَى أشمل من موضوع الاستفتاء؛ بحيث يجيب السائل بأكثر مما سأل عنه لفائدة، يرى أنها تفيد السائل. وقد بوَّب البخاري لذلك في صحيحه، فقال: «باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه»، ثم ساق من الحديث ما يدل على ذلك. ويجوز العدول عن موضوع الاستفتاء إلى موضوع آخر يكون أنفع للسائل مما سأل عنه، أو يكون موضوع الاستفتاء لا يترتب عليه عمل، أو لكون مدارك السائل لا تقوى على فهم ذلك الموضوع الجلل، يدل على ذلك قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: )يّسًأّّلٍونّكّ عّنٌ الأّّهٌلَّةٌ قٍلً هٌيّ مّوّاقٌيتٍ لٌلنَّاسٌ وّالًحّجٌَ( (البقرة: 189). فقد سألوه عن سبب ظهور الهلال خفياً، ثم لا يزال يتزايد فيه النور على التدريج حتى يكمل، ثم يأخذ في النقصان؛ فأجابهم عن حكمة ذلك من ظهور مواقيت الناس، التي بها تمام مصالحهم في معاشهم ومواقيت أكبر عبادتهم، وهي الحج. فإن كانوا قد سألوا عن السبب فقد أجيبوا بما هو أنفع لهم مما سألوا عنه، وإن كانوا إنما سألوا عن حكمة ذلك فقد أجيبوا عن عين ما سألوا عنه. فقد قال ابن عباس لرجل سأله عن تفسير آية: وما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها، كفرت به؟ أي أنكرت هذا الحكم ( الترمذي: 0731).

4. سلامة الفَتْوَى من الغموض

فقد أمر الله ـ تعالى ـ نبيه الكريم بالبلاغ المبين، فقال : )وّمّا عّلّى الرَّسٍولٌ إلاَّ الًبّلاغٍ الًمٍبٌينٍ( (النور: 54). لذا، كان من وضوح الفَتْوَى: خلوها من المصطلحات التي يتعذر على المستفتي فهمها، وسلامتها من التردد في حسم القضية المسؤول عنها. غير أن هناك من يعمد إلى تضمين الفَتْوَى عدة أقوال؛ ليقحم فيها بعض الآراء الشاذة، وينشرها في الناس بدعوى التيسير والمرونة، فيلفت الأنظار إليها، ليُدخل في رُوع المستفتي أنها أقوال لا تقل شأناً عن غيرها، وله أن يختار ما شاء منها، فيدع ـ من ثَمَّ ـ الأقوال الصحيحة، ويتشبث بما وجهت الفَتْوَى الأنظار إليه.

5. مراعاة الحال، والزمان، والمكان

إن من ضوابط الفَتْوَى مراعاتها للحال، والزمان، والمكان؛ إذ قد تتغير الفَتْوَى بتغير الزمان والمكان. وقد راعى الشارع أمر الزمان والمكان؛ مثل إيقاف حد السرقة أثناء غزو الأعداء، وفي بلادهم فإنها لا تقطع هناك؛ لئلا يداخل صاحبَها حمية الشيطان فيلحق بالكفار؛ والدليل على عدم القطع في الغزو ما ورد عن بسر بن أرطأة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: )لا تقطع الأيدي في الغزو( (الدارمي: 1832)، وعلى ذلك إجماع الصحابة. فالمنكر إذا ترتب على إنكاره ما هو أنكر منه فلا يسوغ إنكاره، وما قول النبي لعائشة: )لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة، ولجعلت لها بابَيْن( (الترمذي: 6235).

قال ابن تيمية: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم.

والمعروف أن أصحاب الإمام أبي حنيفة خالفوا إمامهم في مسائل كان مبناها على العرف، أو تغير الزمان والمكان والأحوال، لا سيما بعد وفاته، وعلل الفقهاء هذا النوع من الاختلاف بأنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان. والإمام الشافعي صار له مذهب جديد حين استقر به المقام في مصر، لأمور عديدة من أهمها: تغير الزمان، والمكان، والأحوال. ولهذا رجح الفقهاء بعض الأقوال على بعضها الآخر عند اختلافها اعتباراً للعرف، أو الحال، أو الزمان، أو المكان. قال الحصكفي[1]: قد يحكون أقوالاً بلا ترجيح، وقد يختلفون في الصحيح. وعلى الفقيه مراعاة الأحوال قبل إصدار فتواه؛ إذ قد يكون الحكم مبنياً على معنى معين، ثم تغير ذلك المعنى كما في صدقة الفطر؛ فقد جاء الحديث الشريف بإخراج صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط. وقد قال العلماء: يجوز إخراج صدقة الفطر من الذرة أو الأرز أو غيرهما، إذا كانت هذه الأصناف غالب أقوات البلد. وعللوا ذلك بأن الأصناف الواردة في الحديث الشريف إنما جاءت؛ لأنها كانت هي غالب أقوات أهل المدينة، ولم تأت على سبيل الحصر والتخصيص. والمعروف أن لكلِّ زمان حكماً، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم. غير أنه لا تصح مخالفة النصوص، أو تأويلها تأويلاً متعسفاً، ولا تطويعها لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع، أو تغير الزمان والمكان؛ فهذا تحريف للكلم عن مواضعه، واتباع لما تهوى الأنفس.

6. عدم الإجمال فيما يقتضي التفصيل

إذا كان في المسألة تفصيل، فليس للمُفْتِي إطلاق الجواب، بل عليه أن يستفصل السائل حتى يعطيه الجواب الموافق لمسألته؛ لأن إجمال الفَتْوَى في مثل هذه الحالة تجعل الحكم واحداً لصور مختلفة تختلف الفَتْوَى باختلافها، فيجيب بغير الصواب، ويَهلك ويُهلك، وما ذلك إلا لعدم التبين.

7. تجردها من الأهواء، سواء كان مبعثها المستفتي أو المُفْتِي

أمّا المستفتي: فقد يدفعه هوى متبع، فيزين الباطل بألفاظ حسنة؛ ليغرر بالمُفْتِي؛ حتى يسوغ ذلك للناس، مع أن ما يسأل عنه من أبطل الباطل. قال ابن القيم: "فكم من باطل يخرجه الرجل ـ بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه ـ في صورة حق! وكم من حق يخرجه ـ بتهجينه وسوء تعبيره ـ في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هو أغلب أحوال الناس".

ولهذا اشترط العلماء في المُفْتِي أن يكون متيقظاً. قال ابن عابدين: "وهذا شرط في زماننا، وليحترز من الوكلاء في الخصومات، فإن أحدهم لا يرضى إلاّ بإثبات دعواه لموكله بأي وجه أمكن. ولهم مهارة في الحيل والتزوير وقلب الكلام، وتصوير الباطل بصورة الحق؛ فغفلة المُفْتِي يلزم منها ضرر عظيم في هذا الزمان".

وأمّا المُفْتِي فإن تجرده من الهوى أشد لزوماً من المستفتي؛ لأنه مخبر عن حكم الله تعالى؛ فإن أفتى بهواه موافقة لغرضه أو غرض من يحابيه كان مفترياً على الله. قال ابن القيم: "لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض؛ فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه، ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر". وقد يداخل الهوى بعض المنتمين إلى العلم، فيتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفَتْوَى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناء منه على أن الفَتْوَى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه، وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى. وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة، فإن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها.

8. مراعاة مسؤولية الفَتْوَى الشرعية

لا ينبغي للمؤسسات الإسلامية أن ترد الناس إلى المتساهل في فتواه؛ فهذا يدفعهم إلى الجرأة على الدِّين، ورد أقوال العلماء العاملين. كما لا يجوز لها تبني الفَتَاوَى الخاطئة، والآراء الشاذة، وإذاعتها بين الناس؛ بدعوى التيسير تارة؛ وفهم الواقع تارة أخرى، والضرورة تارة ثالثة.

وعلى المؤسسات الإسلامية توثيق صلتها بالمجامع الفقهية الموثوقة، في البلاد الإسلامية، التي يسهم في بحوثها وفتاواها علماء متخصصون، متفرغون للبحث العلمي والغوص على درر المسائل، مهتمون بدراسة القضايا المستحدثة لإصدار الفَتَاوَى بشأنها بعيداً عن ليِّ النصوص الشرعية، أو تحميلها ما لا تحتمل من التفسيرات القسرية.

ومن هذه المجامع الفقهية الموثوقة: المجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، جدة، المملكة العربية السعودية؛ المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية؛ المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، جمهورية مصر العربية؛ مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، القاهرة، جمهورية مصر العربية؛ مجلس الفكر الإسلامي، إسلام آباد، الباكستان؛ وأكاديمية الفقه الإسلامي، دلهي، الهند.

 



[1] هو محمد بن علي بن محمد المعروف بعلاء الدِّين الحَصْكَفي (1025-1088هـ، 1616-1677م)، نسبة إلى حصن كيفا، وهو موضع بين حلب والرقة بالشام. فقيه حنفي المذهب، أصولي، له مشاركة في التفسير والحديث والنحو. ومن مشايخه الخير الرملي، والفخر المقدسي الحنفي. تولى الفتوى بدمشق، حيث وُلد وتوفي فيها.