إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الفتوى









المعنى الشرعي

الفصل الخامس

آداب الاستفتاء

تعريف المستفتي

هو من ليس بمجتهد، ولا فقيه. أو هو كلّ من لم يبلغ درجة المُفْتِي. وقد يكون المستفتي عامياً صرفاً، لا باع له في أنواع العلوم، وفروعها؛ وقد يكون عالماً، لم يبلغ درجة الاجتهاد، أو بلغ درجة علم محدود، مقيد بمذهب إمام له، ولكنه يعجز عن الاجتهاد، للتوصل إلى حكم شرعي، في ما يستجد من وقائع.

حكم الاستفتاء

يختلف حكم الاستفتاء باختلاف الناس وأحوالهم، كالآتي:

1. يُحرم على من استوفى شروط الاجتهاد وأهليته أن يستفتي غيره؛ لأن الواجب عليه أن يجتهد في المسألة، حتى يعرف حكمها الشرعي. ويجوز له السؤال، حتى يعرف حكمها الشرعي. ويجوز له السؤال، على وجه المدارسة والمذاكرة.

2. يجب على من لم يستوفِ أهلية الاجتهاد، سواء كان عامياً صرفاً، أو عالماً لم يبلغ درجة الاجتهاد، أن يستفتي غيره؛ والوجوب هنا يختلف باختلاف الأشخاص؛ فالصبي حين يبلغ، وكان عاقلاً، يلزمه معرفة أحكام الصلاة، والشهادتَيْن؛ فهذا مما لا يسع المسلم جهله.

3. يُكره في مسائل لم تقع بعد؛ إلاّ إذا كان الأمر متوقعاً حدوثه، على سبيل الظن الغالب. كمن يريد أن يكون، في المستقبل، طبيباً، أو تاجراً، فيسأل عن أحكام ذلك.

4. جائز لمن لا يجب عليه، كالفقير غير المستطيع، ثم يسأل عن أحكام الزكاة، أوالحج، أو العتق، أو صدقات التطوع، وغير ذلك.

شروط الاستفتاء

1. على المستفتي، إذا احتاج للفَتْوَى، أن يسعى إلى المفتي في محلته، فإن لم يكن في محلته، وجب عليه أن يرحل إلى المكان، الذي يجده فيه، فإن لم يكن ببلده، لزمه الرحيل إليه، وإن بعدت داره. فقد رحل غير واحد من السلف في مسألة واحدة.

عن أبي عبدالرحمن السلمي، قال: جاء رجل منّا، إلى أبي الدرداء، أمرته أمه في امرأته أن يفارقها، فرحل إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك. فقال له أبو الدرداء: ما أنا بالذي آمرك أن تطلّق، وما أنا بالذي آمرك أن تمسك. سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: )الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ قَالَ فَرَجَعَ وَقَدْ فَارَقَهَا( (مسند أحمد: 26239). (والحقيقة أن هذه المسألة فيها تفصيل، فالرجل يطيع أباه أو أمه، في الطلاق، إن كان بحق، ولا يؤدي إلى ظلم. وقد سأل رجل الإمام أحمد: هل يفارق امرأته، إذا أمره أبوه أن يفارقها. فقال: لا تفعل. فقال: ألم يأمر عمر ـ رضي الله عنه ـ ولده، عبدالله، أن يفارق امرأته فأمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يطلقها؟ فقال: حتى يكون أبوك مثل عمر). وعن سعيد بن جبير قال: "اختلف أهل الكوفة في هذه الآية: )وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا( (النساء: 93)، فرحلت إلى ابن عباس، فسألته عنها فقال: لقد أنزلت آخر ما أُنزل، ثم ما نسخها شيء".

وإذا قصد أهل محلة للاستفتاء عما نزل به، فعليه أن يسأل من يثق بدينه، ويسكن إلى أمانته، أي يسأل عن أعْلَمهم وأورعهم ليقصده، وإن استرشد جماعة، فعليهم أن ينبهوه إلى أفضل المُفْتِين، وأعلمهم بأحكام الدِّين. فعن موسى بن يسار، قال: كان رجاء بن حيوة[1] وعدي بن عدي[2] ومكحول[3] في المسجد، فسأل رجل مكحولاً عن مسألة، فقال مكحول: سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة.

وإذا ذُكر للمُستفتي اثنان أو أكثر، بدأ بأكبرهما سناً، فيتأدب معه في الخطاب، ويبجله في الألفاظ،، ولا تكون مخاطبته له كمخاطبة أهل السوق والعوام؛ فقد قال تعالى: )لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا( (النور: 63). وهذا أصل في أن يُميز ذو المنزلة بمنزلته، ويفرق بينه وبين من لم يلحق بطبقته. وإذا لم يجد مُفْتِياً، ولا أحداً ينقل له حكم واقعته، لا في بلده ولا في غيره، انتفى التكليف عنه فلا يؤاخذ، إذا صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها.

2. الالتزام بمذهب معين، وهذا هو الأحوط؛ وإن اختُلف فيه. وحجة من أوجبه، أنه لو جاز اتّباع أي مذهب شاء، لأفضى إلى أن يلتقط المستفتي رخص المذاهب؛ متبعاً هواه. ويتخير بين التحليل والتحريم، والوجوب والجواز، وذلك يؤدي انحلال التكليف؛ ومن تتبع الرخص كلها، فهو متبع لهواه. وقد أنكر العلماء على من فعل ذلك، وقالوا يفسق، وقال بعضهم: يخرج عن الإسلام. عن أبي اسماعيل القاضي، قال: دخلت على الخليفة المعتضد، فرفع إلي كتاباً قد جُمِعَت فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: "مصنف هذا الكتاب زنديق. وما من عالم إلاّ وله زلة. ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها، ذهب دينه". فأمر المعتضد بإحراق الكتاب.

3. إذا اختلفت فَتْوَى مفتيَّيْن، أو أكثر، ففي ذلك  خمسة أوجه:

أ.  يأخذ بأغلظ الأقوال وأشدّها؛ لأنه أحوط وأورع.

ب. يأخذ بأخف الأقوال؛ لقوله ـ سبحانه وتعالى ـ: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ( (البقرة:185). ولقول عائشة: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ، إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا؛ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا" (البخاري: 5661).

ج. يأخذ بفَتْوَى الأعْلم، الأورع. ويتفرع على ذلك:

(1) إن كان أحدهما أعْلم، والآخر أورع، يأخذ بقول الأعْلم؛ لقوة معرفته بأخذ الحكم، وهو قول الشافعي.

(2) يأخذ بفَتْوَى الأورع؛ لاجتهاده في التوصل إلى الحق.

(3) فإن تساويا في العلم، أخذ بقول أورعهما. وإن تساويا في الورع، أخذ بقول أعْلمهما.

د. يسأل مُفْتِياً آخر، ويعمل بقول من وافقه منهما.

هـ. يتخير، فيأخذ بفَتْوَى أي منهما شاء.

والراجح ما قاله ابن حزم، وهو أن يأخذ بالقول المدعوم بدليل من كتاب الله، أو سُـنَّة رسوله؛ لأن من قال هو مخير، فقد أمره باتباع هواه، وذلك حرام. ومن قال يأخذ بالأغلظ، فلا دليل معه، ومن قال: يأخذ بالأخف، واستند إلى قوله تعالى: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ( (البقرة:185)، فقد أخطأ؛ لأن كل ما ألزمنا به ربنا، فهو يسر. ومن قال: يسأل مُفْتِياً آخر للتعاضد، فليست الكثرة سبباً للترجيح. والحق هو ما صح دليله من قول ربنا، أو من قول رسوله ـ صلى الله عليه وسلم".

4. إن مات المُفْتِي، قبل عمل المستفتي بفتياه، فله العمل بها؛ وقيل لا يعمل بها. وإن كان قد عمل بها، لم يجز له تركها إلى قول غيره، في تلك الواقعة. ويبدو أنه لامانع من أن يتركها إن ظهرت فتوى أخرى أرجح وأصح دليلاً.

5. وكلُّ فَتْوَى تحوك في صدر المستفتي، ولا تطمئن إليها نفسه، ولا يستريح إليها ضميره؛ لسبب من الأسباب المعتبرة، يجب أن يتوقف عن العمل بها، حتى تتضح له الرؤية، ويصل إلى مرحلة الاطمئنان النفسي؛ بأن يسأل أكثر من مفت، أو يعاود المُفْتِي الأول، مرة بعد أخرى؛ حتى يزول التردد بالتثبت، وينقطع الشك باليقين؛ والقلب، أو الضمير، بتعبير عصرنا، هو المُفْتِي الأول، في هذه الأحوال، كما في الحديث المعروف: )استفت قلبك(.

ولا تخلصه فَتْوَى المُفْتِي من الله، إذا كان يعلم أن الأمر، في الباطن، بخلاف ما أفتاه. كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي: )إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ. وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ. وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ. فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ( (البخاري: 6634). والمُفْتِي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فَتْوَى الفقيه تبيح له ما سأل عنه، إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالمحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المُفْتِي أو محاباته في فتواه، أو عدم تقييده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفَتْوَى بالحيل والرخص المخالفة للسّنة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكون النفس إليها. فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لحال المُفْتِي، يسأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد، فلا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة.

6. يجب أن يكون سؤاله عمّا ينفع، أي يسأل في واقعة يعانيها هو أو غيره، ويريد الحكم فيها. ولا يسأل عما هو مفترض بعيد الوقوع؛ فهذا من أغاليط المسائل، التي جاء الحديث بالنهي عنها. قال رسول الله: )أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ، فَحُجُّوا. فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاثًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ، لَوَجَبَتْ؛ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ. ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ( (مسلم: 2380)، وقال صلى الله عليه وسلم: )إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ( (البخاري: 1383).

وقد ظلّ المسلمون، في عصور ازدهارهم، يسألون عما يفيدهم في دينهم ومعاشهم ومعادهم، وإذا جمح بأحدهم خياله، ردّه علماؤهم إلى جادة الصواب، وأفهموه أن الإسلام يريد المسلم إيجابياً، منتجاً، يُعْرض عن اللغو، ويشغل نفسه ووقته بالنافع من القول والعمل والفكر. ولمّا تخلف المسلمون حضارياً وفكرياً، أكثروا من الأسئلة، التي لا يصلح بها دين، ولا ترتقي بها دنيا، ولا يزكو عليها فرد، ولا تنهض بها جماعة، وشغل عوام المسلمين بمسائل وتفصيلات، لم تخطر على بال أحد من سلف الأمة.

7. وإذا استفتى، فأُفتى، ثم حدثت تلك الحادثة له، مرة أخرى، فهل يلزمه تجديد السؤال؟ فيه مذهبان: أحدهما، يلزمه، لاحتمال تغير رأي المُفْتِي؛ والثاني، لا يلزمه؛ لأنه قد عرف الحكم، والأصل استمراره.

8. ينبغي أن لا يمنعه الحياء من السؤال عن أمر نزل به؛ فإن غلب عليه الحياء، واحتشم من سؤال الفقيه، ألقى مسألته على من يأنس به، وينبسط إليه؛ ليسأل الفقيه عنها، ويخبره بحكمها. طلب علي بن أبى طالب من المقداد بن الأسود، "أَنْ يَسْأَلَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ الرَّجُلِ إِذَا دَنَا مِنْ أَهْلِهِ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَذْيُ، مَاذَا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ عِنْدِي ابْنَتَهُ، وَأَنَا أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَهُ. قَالَ الْمِقْدَادُ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: )إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ، فَلْيَنْضَحْ فَرْجَهُ، وَلْيَتَوَضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ( (سنن أبي داود: 179).

وعن الأسود[4] ومسروق[5]، قالاً: "أتينا عائشة لنسألها عن المباشرة للصائم( أي لمس الرجل لامرأته أو تقبيلها). فاستحيينا، فقمنا قبل أن نسألها. فقالت: ما جاء بكما؟ فقلنا: يا أم المؤمنين، إنا جئنا؛ لنسألك عن شيء. فاستحيينا، فقمنا. فسألتنا، فأخبرناها. فقالت: "كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُقَبِّل،ُ وَيُبَاشِر،ُ وَهُوَ صَائِم،ٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ" (البخاري: 1792).

9. لا يصح للسائل أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه؛ لأنه إسناد أمر إلى غير أهله، والإجماع على عدم صحة مثل هذا؛ لأن السائل إذا سأل من ليس أهلاً، فكأنما يقول له: أخبرني عما لا تدري، وأنا أسند أمري لك، فيما نحن بالجهل فيه سواء. ويؤخذ من هذا أن المسلم، إذا جهل أمراً من أمور دينه، وجب عليه أن يسأل من هو أهل لإفادته، وأن يتحرى ذلك، كالمريض الذي يبحث عن طبيب اشتهر في علاج داء من الأدواء الجسدية، أو النفسية، فأولى به؛ تصحيحاً لالتزاماته الدِّينية، ألا يلجأ في الاستفتاء في أمور الدِّين إلاّ لأهل الذكر فيها؛ امتثالاً لقول الله تعالى؛ تعليماً وتوجيهاً: )فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ( (الأنبياء: 7).

10. ويجب على السائل أن يتجه سؤاله عن المفيد في أمر التكليف، أي عن المفيد في دينه، ويرشد إلى هذا قول الله ـ سبحانه وتعالى: )يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ( (البقرة: 189). وقد وبّخ عمر بن الخطاب رجلاً؛ وعاقبه أشد العقاب؛ لأنه يسعى في السؤال عن المتشابهات، التي لا ينفع العلم بها. وكان الصحابة والتابعون لا يسألون إلاّ فيما هو نافع، وكانوا أبعد ما يكونون عن المسائل الأشبه بالألغاز. وقال رجل للإمام الشعبي: "إني خبأت لك مسائل. فقال له: خبأها لإبليس حتى تلقاه، فتسأله عنها". وروى عن ابن عباس أنه قال: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله، ما سألوه إلاّ عن ثلاثة عشرة مسألة، حتى قُبض، كلّهن في القرآن، منها )يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ"، و"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ(، ما كانوا يسألون إلاّ عما ينفعهم".

آداب المستفتي

(من الجدير الذكر، أن ما يلي من الآداب كانت عند لقاء المستفتي بالمفتي، أمّا في زماننا هذا فقد تشابكت وتطورت الوسائل، وصارت هناك فتاوى على الهاتف، وبالبريد الألكتروني، ومواقع مخصصة للفتاوى الجاهزة).

1. حُسن الأدب، عند سؤال المُفْتِي، واحترامه وتوقيره. فلا يسأله، وهو قائم؛ بل ينتظر حتى يجلس. ولا يطرق بابه، وقت القيلولة، أو النوم ليلاً، أو أوقات راحته الخاصة، في بيته. وإن رآه في هم قد عرض له، أو أمر يحول بينه وبين الاتزان والفكر السديد، ويصده عن استيفاء فكره، أمسك عنه؛ حتى إذا زال ذلك العارض، وعاد إلى المألوف من سكون القلب وطيب النفس؛ فحينئذ يسأله. وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، بقوله: )لا يَقْضِيَنَّ أَحَدٌ فِي قَضَاءٍ بِقَضَاءَيْن،ِ وَلا يَقْضِي أَحَدٌ بَيْنَ خَصْمَيْنِ، وَهُوَ غَضْبَانُ( (النسائي: 5326).

2. ولا ينبغي له إذا سأل المُفْتِي أن يقول له: ما يقول صاحبك أو ما تحفظ في كذا، بل يقول: ما تقول أيها الفقيه؟ أو ما عندك؟ أو ما الفَتْوَى في كذا؟

3. ليس ينبغي للعامي أن يطالب المُفْتِي بالحجة فيما أجابه به، ولا يقول لم؟ وكيف؟ فقد قال الله ـ سبحانه وتعالى: )فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ( (الأنبياء: 7). وفرق ـ تبارك وتعالى ـ بين العامة وبين أهل العلم، فقال: )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( (الزمر: 9).

فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك، سأل عنها في زمان آخر، ومجلس ثان، أو بعد قبول الفَتْوَى من المُفْتِي مجردة.

4. وإذا رفع السائل مسألته في رقعة، فينبغي أن تكون الرقعة واسعة، ليتمكن المُفْتِي من شرح الجواب فيها، فربما اختصر ذلك لضيق البياض، فأضرّ بالسائل. وربما ضاق المُفْتِي بذلك. وقد دفع غلام رقعة ضيقة إلى أحد المُفْتِين يستفتيه، فقال له، بعد ما تأملها: فأين أكتب الجواب؟ فقال: على ظهر الرقعة فقال: ما هذه المضايقة؟ لكن خذ الجواب شفاهاً.

فإن أراد الاقتصار على جواب المسؤول وحده، قال له في الرقعة: ما تقول رضي الله عنك، أو رحمك الله، أو وفقك الله. وإن قال: ما تقول رحمك الله، ورحم والديك"، كان أحسن. وإذا أراد أن يسأل جماعة من الفقهاء قال: ما تقولون رضي الله عنكم؟ أو ما يقول الفقهاء، سددهم الله، في كذا؟ ولا ينبغي أن يقول: أفتونا في كذا، ولا : ليفت الفقهاء في كذا، فإن قال: ما الجواب؟ أو ما الفَتْوَى في كذا؟ كان قريباً. وحُكى أن فَتْوَى وردت من السلطان إلى أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، لم يكتب له الدعاء فيها، فكتب الجواب في أسفلها: لا يجوز، أو كتب: يجوز، ولم يزد على ذلك. فلما عادت الرقعة إلى السلطان، ووقف عليها، علم أن ذلك كان من أبي جعفر الطبري للتقصير في الخطاب الذي خوطب به، فاعتذر إليه.

5. أن يكون كاتب الاستفتاء دقيقاً، حريصاً على إبانة الخط، ونقط ما أشكل، وشكل ما أشبه. عن أبي حسين الخياط، قال: "كنت قاعداً عند أبي مجالد أحمد بن الحسين، فجاءته امرأة برقعة فيها مسألة. فقال لي: إقرأ عليّ يا أبا الحسين. قال: فأخذت الرقعة فإذا فيها: رجل قال لامرأته: أنت طالق إن تم وقف عبدان؟ فقرأت عليه ذلك. فقال لها يا امرأة ما حال وقف عبدان؟ فقالت له: لست أعرف وقف عبدان. فقال لي: أعد القراءة. فقرأت عليه كما قرأت أولاً. فقال لها: يا امرأة تم وقف عبدان هذا أو لم يتم؟ قالت: لا والله، ما أعرف وقف عبدان. وكان في المسجد جماعة. فقال لهم: انظروا في رقعة المرأة، فنظروا فكلّ قال كما قلت. ثم انتبه لما في الرقعة بعضهم، فإذا فيها: رجل قال لامرأته أنت طالق إن تم وقف عند إن.

6. كان بعضهم يختار أن يدفع الرقعة إلى المُفْتِي منشورة ولا يكلفه نشرها، ويأخذها من يده إذا أفتَى، ولا يكلّفه طيها. وإذا أراد المستفتي جمع جوابات عدة، من المفتِين في رقعة واحدة، بدأ بسؤال الأسن والأعلم؛ فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرجل همَّ بالكلام، في حضرة من هو أكبر منه سنّاً: )كبِّر كبِّر( (البخاري: 2937).

وإن أراد المستفتي إفراد الجوابات في رقاع، فلا عليه أن يبدأ بأيهم شاء. قال الصيمري: يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم. وكان بعض الفقهاء ممن له رياسة لا يفتي، إلاّ في رقعة كتبها رجل بعينه من أهل العلم ببلده.

7. وعلى المستفتي أن يتقي الله ويراقبه في استفتائه إذا استفتى، ولا يجعل المفتى ذريعة إلى أمر يعلم من قرارة نفسه أنه غير جائز شرعاً، وإنما لبس على المُفْتِي، وغره بزخرف القول، أو بإخفاء عنصر له تأثير في تكييف القضية المسؤول عنها، فيجيب المُفْتِي بما يظهر له غير متفطن إلى خبايا الموضوع وخلفياته. ولو عرضت عليه القضية بوضوح، لا تلبيس فيه ولا تمويه، وظهر له من خباياها ما أخفي عنه، لغير فتواه.

والمُفْتِي هنا كالقاضي الذي يحكم بحسب الظاهر، تاركاً إلى الله أمر الخفايا والسرائر، وقضاؤه بحسب الظاهر، لا يجعل الحرام في الباطن حلالاً، قال تعالى: )وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ( (البقرة: 188). وفي الحديث الصحيح: )إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَي،َّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ( (البخاري: 6634). وإذا كان هذا في قضاء الرسول المصطفى بحسب ما ظهر له، فكيف بقضاء غيره؟! 

8. يستحب للمستفتي أن يتغاضى عن هفوة المُفْتِي، أو غلطته؛ فلا يتنكر له. فمن صبر على التعليم، تعلم، وإلا ظلّ جاهلاً، قال الشاعر:

فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه         واصبر لجهلك إن جفوت معلماً

إن المعلم والطبيب كلاهما            لا ينصحان إذا هما لم يكرما

9. ألاّ يستحي من السؤال عمّا أشكل عليه، بل يستوضحه أكمل استيضاح؛ فقد قيل: "من رق وجهه، رق علمه. ومن رق وجهه، عند السؤال، ظهر نقصه، عند اجتماع الرجال". قال البخاري: بَاب الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "لا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلا مُسْتَكْبِر". وَقَالَتْ عَائِشَة:ُ "نِعْمَ النِّسَاء،ُ نِسَاءُ الأَنْصَار؛ِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ".

10. أن يدعو للمُفْتِي، بعد انتهاء الجواب على مسألته.

11. ألاّ يكون فضولياً؛ فيسأل المُفْتِي أموره الخاصة.



[1] هو رجاء بن حيوة بن جرول الكندي أبو المقدام، شيخ أهل الشام في عصره، ومن الوعاظ الفصحاء العلماء. وُلد في القرن الأول الهجرى، وعُرف بملازمته لعمر بن عبدالعزيز طوال خلافته، وتوفى  في سنة 112هـ. اشتهر بأنه أحد المهندسَيْن الاثنيْن اللذين أشرفا على تفاصيل الزخارف والنقوش الاسلامية داخل قبة الصخرة في القدس. راجع: سير أعلام النبلاء للذهبي، ج4 ص557 ـ 561، ط9.

[2] عدي بن عدي، أبوه من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم. استعمله عمر بن عبد العزيز على الجزيرة والموصل. وكان ناسكاً، ويقال عنه: إنه سيد أهل الجزيرة. راجع: ابن الأثير، "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، ج17، ص 111. 

[3] هو: مكحول الأزدي البصري أبو عبد الله، تابعي جليل. روى عن ابن عمر وأنس، وسمع أيضا من واثلة وفضالة بن عبيد وسعد بن أبي وقاص وجماعة من الصحابة. راجع: سير أعلام النبلاء، ج5، ص160.

[4] الأسود بن يزيد ابن قيس، الإمام القدوة أبو عمرو النخعي الكوفي. وقيل يكنى أبا عبد الرحمن، وهو أخو عبد الرحمن بن يزيد، ووالد عبدالرحمن بن الأسود، وابن أخي علقمة بن قيس، وخال إبراهيم النخعي. فهؤلاء أهل بيت من رؤوس العلم والعمل. وكان الأسود مخضرماً، أدرك الجاهلية والإسلام. وحدث عن معاذ بن جبل وبلال وابن مسعود وعائشة وحذيفة بن اليمان وطائفة سواهم. حدث عنه ابنه عبد الرحمن، وأخوه، وإبراهيم النخعي، وعمارة بن عمير، وأبو إسحق السبيعي، والشعبي، وآخرون. نقل العلماء في وفاة الأسود أقوالاً أرجحها: سنة خمس وسبعين هجرية. راجع: سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، ج 4، ص 50ـ53.

[5] مسروق ابن الأجدع بن مالك بن أمية بن عبد الله بن مر بن سلمان بن معمر، الإمام القدوة العلم، الهمداني الكوفي. يُقال إنه سُـرق وهو صغير، ثم وجد، فسمي مسروقاً. حدث عن أبي بن كعب، وعمر، وعن أبي بكر الصديق، وآخرين. ويُعَدّ من كبار التابعين، ومن المخضرمين، الذين أسلموا في حياة النبي. قال الشعبي: كان مسروق أعلم بالفتوى من شريح، وكان شريح أعلم بالقضاء من مسروق، وكان شريح يستشير مسروقاً، وكان مسروق لا يستشير شريحاً. ومما قال مسروق: لأن أفتي يوما بعدل وحق أحب إلي من أن أغزو سنة. ويقال: شهد صفين فوعظ وخوف ولم يقاتل. وقيل: شهد قتال الخوارج مع علي. وقيل: مات سنة ثلاث وستين هجرية. سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، ج4، ص63 ـ 69 .