إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أحكام الشريعة الإسلامية









المبحث الرابع

المبحث العاشر

مستقبل التشريع الإسلامي

ماذا نريد من هذا التشريع؟ حاله بالأمس القريب، حاله اليوم، كيف نصل لما نريد؟ واجبنا في هذا السبيل.

أولاً: ماذا نريد من هذا التشريع؟

والآن، ماذا نريد من هذا التشريع الإسلامي الذي عرفنا الكثير عنه، والذى به صلحت أمة عظيمة سادت البشرية قرونا طويلة؟ إننا لا نريد إلا شيئا واحدا، لنا الحق كل الحق في أن نريده، بل يجب علينا أن نريده ونعمل ونجاهد في سبيله، وهو أن يكون هذا التشريع الإسلامي الأساس الأول لتشريعاتنا، ولكل ما تأخذ به الأمة من قوانين. ولا علينا مع هذا أن نفيد من كل خير نجده في التفكير القانوني لأي أمة من الأمم، بل لعل هذا يكون واجبنا، فما كانت أمة لتستغني عن غيرها في كل شؤونها.إلا مظهرا من مظاهر الاستقلال، الذي تحرص عليه كل أمة، وإنه ليس هناك أضر من الاستعمار الفكري والتبعية القانونية من أمة لأخرى.

إن من المسلَّم به أن القانون هو أساس النظم، التي يقوم عليها بناء الأمة، وليس من الرشد أن تقيم أمة نظمها على أساس مستعار من أمة أخرى، وهو، مع هذا، قد لا يتفق ودينها وماضيها وتقاليدها الطيبة، بل هو يضرّ حاضرها ويقتل مستقبلها.

وإنا لنعلم تماما أن هذا الذي نريد لن يتحقق مرة واحدة وفي زمن قريب، فقد مضى زمنا طويلا ركد فيه الفقه الإسلامي وجمد على حالة واحدة، فلابد من زمن نفيق فيه من هذا النوم، الذي طال أمده، ولا مناص من زمن يطول أو يقصر يتطور فيه هذا الفقه، ليكون منه حلول لكل مشاكل العصر، التي تجدَ وتتغير من حين إلى حين، وهذا ما يحتاج منا إلى عمل جاد متواصل.

وما ينبغي لنا أن نجبن أمام ما يقتضيه ما نريده، من جهد شاق وعمل ضخم، ولا أن نيأس، إن طال بنا الزمن في جهادنا هذا. ونظرة إلى ما كان عليه هذا الفقه الإسلامي بالنسبة للقانون الوضعي بالأمس القريب، ثم إلى ما صار عليه اليوم، تقنعنا بما نقول، وتجعلنا نسير مطمئنين إلى ما نريد، وسيكون إن شاء الله تعالى.

ثانياً: حال الفقه بالأمس القريب

حال الفقه، من الوجهة الرسمية، بالأمس القريب، لا تزال ماثلة أمام أعيننا بواقعها وآثارها ـ فقد نحي عن الحكم والقضاء ـ إلا فيما سموه "الأحوال الشخصية" من الزواج والطلاق والوصية والميراث ـ والإدارة وسياسة الدولة بعامة. فكان أن انزوى بين جدران المعاهد الدينية، وصار لا يعنى أحد بدراسته دراسة علمية جدية، ما دام لا حاجة إليه في القوانين الرسمية وتطبيقها في غير المحاكم الشرعية، وذلك في أغلب بلاد المسلمين، إلا ما رحم ربّك.

وكان ذلك كله، بعد أن أخذت بعض بلاد المسلمين بالقوانين الفرنسية.

صرنا إذا، في هذه الفترة ـ بعد أن تركنا فقهنا الإسلامي الأصيل ـ لا نُعنى إلا بفقه أجنبي دخيل، أو فقه يحتله الأجنبي، إذا أردنا التخفيف من الواقع قليلا واصطنعنا تعبير الأستاذ الدكتور السنهورى، فقد كتب منذ عشرين عاما يقول "علينا أولا أن نمصر الفقه، فنجعله فقها مصريا خالصا، نرى فيه طابع قوميتنا، ونحس أثر عقليتنا. ففقهنا اليوم لا يزال هو أيضا يحتله الأجنبي، والاحتلال هنا فرنسي، وهو احتلال ليس بأخف وطأة ولا بأقل عنتا من أي احتلال آخر، لا يزال الفقه المصري يتلمس في الفقه الفرنسي الهادي المرشد الذي لا يكاد يتزحزح عنه، فهو ظله اللاصق وتابعه الأمين".

ثالثاً: حال الفقه الإسلامي اليوم

ذلك ما كان عليه الفقه رسميا بالأمس القريب، كما ذكرنا، أما اليوم فنرانا خطونا خطوة كبيرة في سبيل الغرض، الذي نقصد. ولهذه النقلة أسبابها، كما أن لها مظاهرها، وسنتناول كلا من هذه الأسباب والمظاهر بكلمة موجزة.

أحست الأمة إحساسا شديدا بشدة وطأة الاحتلال الأجنبي ومعرته، سواء في هذا الاحتلال العسكري والاحتلال الفكري، فهبت جميعا تطلب الاستقلال في كل شيء، وطالبت بهذا بكل وسيلة، وعملت له بما تملك من قوى. ونبغ من رجال القانون من رأى أنه آن للقانون الذي نحكم به أن يكون إسلاميا، يتفق مع ديننا وعقيدتنا، وعملوا لهذا الاستقلال بالطرق، التي رأوها صالحة ناجعة في رأيهم. كما طالبت الشعوب الإسلامية بضرورة أن يكون الحكم بقوانين مأخوذة من الشريعة الإسلامية، لأن "الإسلام دين ودولة" ودنيا وأخرى، وذلك لما جاء به من قوانين صالحة لحكم الجماعة والإنسانية في مختلف شؤونها.

ولا عجب أن ننادي بهذا، ففي الإسلام ـ بتشريعاته ونظمه ـ ما يغنينا عن الأخذ دائما عن الغرب من غير ضرورة.

فإن لكل أمة قانونا يتحاكم إليه أبناؤها، وهذا القانون يجب أن يكون مستمدا من أحكام الشريعة الإسلامية، مأخوذا عن القرآن الكريم، ومتفقا مع أصول الفقه الإسلامي. وإن في الشريعة الإسلامية، وفيما وضعه المشرعون المسلمون، ما يسد الثغرة ويفي بالحاجة وينقع الغلة، ويؤدي إلى أفضل النتائج وأبرك الثمرات.

وإن في حدود الله ـ لو نفذت ـ لزاجراً يردع المجرم، وإن اعتاد الأجرام، ويكف العادي وإن تأصل في نفسه العدوان، ويريح الحكومات من عناء التجارب الفاشلة. وإن التجربة تثبت ذلك وتؤيده، وأصول التشريع الحديث تنادى به وتدعمه، والله تبارك وتعالى يفرضه ويوجبه" 

وهناك سبب ثالث نعتقد أنه دفع بعض رجال القانون عندنا إلى تقدير الفقه الإسلامي، والأخذ في العناية به والإفادة منه، ونعني به اهتمام كثير من رجال القانون بهذا الفقه والإشادة به في كثير من مؤتمراتهم في "لاهاي" و"نيس" و"باريس" مثلا.

واهتمام الغربيين بالتراث الإسلامي المجيد يرجع إلى العصور الوسطى، حين أرادوا معرفة عوامل مجد المسلمين ووصولهم إلى مركز القيادة في العالم، الذي كان معروفا حينذاك[1]، فأقبلوا على هذا التراث دراسة وإفادة وترجمة ونشرا لكثير من عيون مراجعه الأصلية.

وكان من آثار هذا الاهتمام الذي لا يزال مستمرا حتى اليوم، أن ظفرنا بكثير من هذه المراجع منشورة بعناية هؤلاء المستشرقين، وأن ظفر العلم أيضا بكثير من مؤلفاتهم ودراساتهم الخاصة القيمة في الفقه وغير الفقه من جوانب ثقافة الإسلام وحضارته.

نريد أن نقول إن هذه العناية من جانب الغربيين، الذين تخصصوا في الفقه الإسلامي وقصروا جهودهم عليه، وإن ما كان منهم ـ ولا يزال ـ من إشادة به باعتباره فقها أصيلا حيا وقابلا للتطور ومسايرة الحياة الحاضرة، وللإسهام في تقدم الفقه العالمي، ربما دفعت الكثير من رجال القانون عندنا للإيمان به وللإقبال على دراسته والانتفاع به.

تلك هي جماع الأسباب، التي أدت إلى أن خطونا خطوة واسعة مباركة في سبيل تحقيق الغرض المنشود، وهو العناية بالفقه الإسلامي ودراسته وجعله الأساس الأول لتشريعاتنا الحديثة، تحقيقا لاستقلالنا، الذي نحرص عليه أشد الحرص. أما مظاهر هذه الخطوة أو النقلة، فإننا نستطيع أن نجملها في هذه الأمور:

1. اتجاه غير قليل من طلاب القانون ورجاله لكتابة بحوث ورسائل دكتوراه في مواضيع من الفقه الإسلامي، أمثال الدكتور شفيق شحاتة في "نظرية الالتزامات في الشريعة الإسلامية"، والدكتور السعيد مصطفى السعيد في"مدى استعمال حقوق الزوجية وما تتقيد به الشريعة الإسلامية والقانون المصري الحديث"، والدكتور صبحي محمصاني في "النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية". والدكتور محمد ذكى عبد البر في "تحمل التبعة في الفقه الإسلامي".

وذلك إلى مؤلفات وبحوث أخرى، مثل "التشريع الجنائي في الإسلام"، و "الإسلام وأوضاعنا القانونية"، وكلاهما للأستاذ عبد القادر عودة، إلى غير هذا وذاك من الرسائل والمؤلفات والبحوث المختلفة.

2. جعل الفقه الإسلامي مصدراً رسمياً من مصادر القانون المدني الجديد، ولهذا أثره الطيب بلا ريب من ناحيتين، التوسع في الأخذ منه، وأن دراسته أصبحت واجبة على رجال القانون والقضاء.

وعن الناحية الأولى، يقول الدكتور السنهوري بعد أن أشار إلى ما استبقاه القانون الجديد مما كان أخذه القانون القديم من الفقه الإسلامي.

"وقد استحدث التقنين الجديد أحكاما أخرى استمدها من الفقه الإسلامي، وبعض هذه الأحكام الجديدة هي مبادئ عامة، وبعضها مسائل تفصيلية. فمن المبادئ العامة، التي أخذ بها، النزعة الموضوعية، التي نراها تحلل كثيرا من نصوصه، وهذه هي نزعة الفقه الإسلامي، آثرها التقنين الجديد على النزعة الذاتية، التي هي طابع القوانين اللاتينية، وجعل الفقه الإسلامي عمدته في الترجيح.

ومن هذه المبادئ أيضا، نظرية التعسف في استعمال الحق، لم يأخذها التقنين الجديد عن القوانين الغربية فحسب، بل استمدها كذلك من أحكام الفقه الإسلامي، ولم يقتصر فيها على المعيار الشخصي، الذي اقتصرت عليه أكثر القوانين، بل ضم إليها معيارا موضوعيا في الفقه الإسلامي، يقيد استعمال الحق بالمصالح المشروعة، ويتوقى الضرر الجسيم، الذي قد يصيب الغير من استعماله.

وكذلك الأمر في حوالة الدين، أغفلتها القوانين اللاتينية، ونظمتها القوانين الجرمانية متفقة في ذلك مع الفقه الإسلامي، فأخذ بها التقنين الجديد. ومبدأ الحوادث الطارئة imprevision أخذ به بعض التقنينات الحديثة، فرجح التقنين الجديد الأخذ به استنادا إلى نظرية الضرورة ونظرية العذر في الفقه الإسلامي.

ومن الأحكام، التي استحدثها التقنين الجديد مسائل تفصيلية كما قدمنا، وقد اقتبسها من الفقه الإسلامي. ومن هذه المسائل الأحكام الخاصة بمجلس العقد، وبإيجار الوقف، وبالحكر، وبإيجار الأراضي الزراعية، وبهلاك الزرع في العين المؤجرة، وبانقضاء الإيجار بموت المستأجر وفسخه للعذر، وبوقوع الإبراء من الدين بإرادة الدائن وحده.

وعن الناحية الثانية، وهي ناحية ضرورة التوسع في دراسة الفقه الإسلامي، بعد أن صار المصادر الرسمية للقانون الجديد، نرى الأستاذ السنهورى أيضا يقول:

"ولا شك في أن ذلك يزيد كثيرا في أهمية الشريعة الإسلامية، ويجعل دراستها دراسة علمية في ضوء القانون المقارن أمرا ضروريا لا من الناحية النظرية الفقهية فحسب، بل كذلك من الناحية العملية التطبيقية. فكل من الفقيه والقاضي أصبح الآن مطالباً أن يستكمل أحكام القانون المدني، فيما لم يرد فيه نص، ولم يقطع فيه عرف، بالرجوع إلى أحكام الفقه الإسلامي.

ويجب عليه أن يرجع إلى هذه الأحكام، قبل أن يرجع إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، بل لعل أحكام الشريعة الإسلامية، وهي أدق تحديدا وأكثر انضباطا من مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، هي التي تحل محل هذه المبادئ والقواعد، فتغنينا عنها في كثير من المواطن".

3. ونذكر أخيرا من هذه المظاهر، أن فكرة أن يكون الفقه الإسلامي هو الأساس الأول لكل قوانيننا وتشريعاتنا الحديثة، قد "تبلورت" في أذهان كبار رجال القانون، وأخذت مكانها اللائق بها في تفكيرهم وفي كتاباتهم، وكان من هذا أن رأينا الدكتور السنهوري يقول في بحث آخر له ما ننقله كذلك حرفياً[2].

"والهدف الذي نرمي إليه، هو تطوير الفقه الإسلامي، وفقا لأصول صناعته، حتى نشتق منه قانونا حديثا يصلح للعصر الذي نحن فيه. وليس القانون المصري الجديد أو القانون العراقي الجديد إلا قانونا مناسبا في الوقت الحاضر لمصر أو العراق.

والقانون النهائي الدائم لكل من مصر والعراق، بل لجميع البلاد العربية، إنما هو "القانون المدني"، الذي نشتقه من الشريعة الإسلامية. وقد تكون البلاد العربية عند ظهور هذا القانون قد توحدت سياسيا، فيأتي القانون ليدعم وحدتها، وقد تكون في طريقها إلى التوحيد، فيأتي القانون عاملا من عوامل توحيدها، ويبقى على كل حال رمزا لهذه الوحدة".

رابعاً: كيف نصل إلى ما نريد؟

من الأقوال المأثورة، أنه ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، وأنه ما نيل المطالب بالتمني وحده، ولكن بأن تشتد الأمنية فتصير رغبة، وأن تشتد هذه الرغبة بالعزم الصادق عليها فتصير إرادة. ولا يصل الإنسان إلى أن يريد شيئا إلا إن فكر فيه ورآه ممكنا، ثم أجمع أمره عليه وأخذ في تذليل ما يعترضه من صعاب أو عقبات.

وهنا، نريد أن يكون الفقه الإسلامي في مستقبل الأيام الأساس الأول لتشريعنا وأن يكون لنا منه قانون عربي أو إسلامي عام للبلاد العربية الإسلامية كلها. وهذا الذي نريد أمر عظيم، وهو يتطلب منا عملاً جادًّا دائبًا، فما ينبغي لنا ـ إذاً ـ أن نخدع أنفسنا بأن نزعم أننا نريد، ثم لا نعمل ما يجب أن نعمل، ليكون ما نريد أمرا واقعا في مستقبل الأيام.

إن هذه الغاية، التي يرجو كل مسلم الوصول إليها، تلقي علينا ـ معشر رجال الفقه والقانون ـ تبعات ثقالا، وتتطلب من كل فريق منا أن يقوم بواجبه كاملا في هذا السبيل.

إن علينا، معشر المعنيين بالشريعة الإسلامية، بيان هذا الفقه في مراجعه الأولى الأصلية، وهذا لا يتأتى إلا بنشر هذه المراجع نشرا علميا ييسرها للباحثين. ثم علينا بعد ذلك نشر أمهات الكتب الفقهية الأخرى، التي جاءت في العصور التالية، فلا نقتصر منها على مذهب واحد أو على المذاهب الأربعة المعروفة، بل علينا أيضا عرض المذاهب الأخرى، مثل المذهب الظاهري. ففي هذه المذاهب الأخرى كنوز من الثروة الفقهية، وفيها كثير ينفعنا في نهضتنا التشريعية والاجتماعية.

ومتى تم لنا معرفة الفقه الإسلامي في مختلف مذاهبه، كان علينا أن ندرسه على نحو جديد، غير النحو الذي كان يدرس عليه الفقه في العصور السابقة، نعني التاريخية المقارنة، بين بعضها من ناحية، وبينها وبين ضروب الفقه والقوانين الحديثة من ناحية أخرى.

إن هذه الدراسة تساعدنا على التحرر من ربقة التقليد، الذي أخذ منا بالخناق، وتجعلنا نعرف يقينا أن الله لم يخص بالحق كله فقيها أو مذهبا واحدا بعينه، ونقدم مادة خصبة للذين يقومون بالقوانين الوضيعة الحديثة، وذلك ما يعرفهم بما للفقه الإسلامي من منزلة كبيرة، فيفيدون منه أجل فائدة، حتى يكون المصدر الرسمي لما يضعون من قوانين.

فضلا، عن أن هذا النوع من الدراسة، يرسم لنا لوحة أمينة صادقة لجهود العقل الإنساني في هذه الناحية، ولتطور الفكر العالمي فيما يتصل بالتشريع والتقنين؛ ليتناسب مع ما يجد من مشاكل الحياة العملية وأحوالها العديدة المختلفة، وسواء في ذلك جهود الفقهاء في الشرق والغرب من المسلمين وغير المسلمين.

إن على رجال القانون واجبا لا يقل جهدا ولا خطرا عما على رجال الفقه. عليهم أن يعاونوا زملاءهم في دراسة الفقه الإسلامي في سائر نواحيه في البحث الخاص بفروع الفقه وفروع القانون إن هذا الفقه يشتمل على كل النواحي، التي يدرسها القانون بقسيمه "العام والخاص" وبسائر فروعه.

وبذلك التعاون والدرس المشترك، يتبين للمشتغلين بالقانون أن في التراث الفقهي الإسلامي ما يغنينا في نواح كثيرة عن الأخذ عن الفقه والقوانين الأجنبية، وأنه من الميسور أن نشتق من هذا الفقه قانونا عاما صالحا لجميع البلاد العربية الإسلامية، وهذا ما سيكون في يوم ليس بعيدا إن شاء الله تعالى، ما دمنا نطلبه ونريده ونعمل له متعاونين بكل سبيل.

خامساً: لابد من الاجتهاد

ومع هذا وذاك كله، لابد من فتح باب الاجتهاد في الفقه للقادر عليه، فما تخلف الفقه الإسلامي عن القافلة، إلا بسبب سد هذا الباب منذ قرون. ونحن نعلم أن الاعتزاز بتراث الماضين من الأسلاف أمر طبيعي وغرزي في الإنسان، وأنه من العبث والحمق أن نحاول التنكر لهذا التراث والاستغناء عنه، وأنه من المستحيل أن نقيم علما من العلوم من دون أن نفيد من جهود الماضين، وثمار تفكيرهم في دائرة هذا العلم.

ولكنا نعلم مع هذا، أن الجمود من سمات الموت، وأن الحركة هي الخاصة الأولى للحياة، وأن القرآن الكريم، نعى، في كثير من آياته، على التقليد والمقلدين، وقد نهى الأئمة أنفسهم، رضوان الله عليهم، عن تقليدهم بلا حق، وقد نقل هذا النهي عن أبي حنيفة وغيره، ومن ذلك قول الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة من حطب، وفيه أفعى تلدغه، وهو لا يدرى"! ويذكر إسماعيل بن يحيى المزني في أول مختصره في الفقه، بأنه اختصر من علم الشافعي؛ ليقربه على من أراده، مع إعلامه بنهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه.

وليس لأحد منا أن يخلط بين التقليد المنهي عنه، وبين الأتباع، الذي أثنى الله عليه بقوله ]وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ (سورة التوبة: الآية 100)، فيقول إن في التقليد إتباعا يرضاه الله جل ثناؤه. نعم! ليس لنا أن نلجأ لمثل هذا القول، فإن إتباع الجلة من المهاجرين والأنصار ـ في هذه الناحية ـ هو احتذاؤهم في طرق استدلالهم واستنباطهم الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، والفرق كبير بين هذا وبين التقليد!

وقد ذكر أبو داود أنه سمع الإمام أحمد بن حنبل يقول: "الإتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي r، ثم هو من بعد في التابعين مخير". كما أنه قال أيضاً: "لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا فأين هذا مما نحن عليه اليوم، من تقليدنا غير قليل من الفقهاء المتأخرين زمنا، وجعل آرائهم شرعة واجبة الأتباع؟

على أن للمسألة وجها آخر يوجب علينا الاجتهاد للقادر عليه، وإلا كنا آثمين في حق الفقه والأمة. إن فقهاءنا الماضيين رضي الله عنهم وأثابهم خيرا كثيرا، قد نظروا لدينهم وأمتهم وأنفسهم، وبحثوا عن حكم الله في كل ما كان في أيامهم من حوادث ونوازل ومسائل ومشاكل، فما جبنوا عن مواجهة شيء منها، ولا قصروا في بيان حكم الله ورسوله، r، فيها.

ولكن الزمن يتغير، والمعاملات تجد وتتطور، فكان أن وجد منها اليوم ما لم يكن موجوداً بالأمس، فليس لنا أن نمسك عن بيان حكم الفقه في كل منها متعللين بأن الفقهاء الماضين لم يتكلموا فيها، بل علينا أن نجتهد في ذلك مستفيدين من جهود الماضين، ومعتمدين قبل كل شيء على كتاب الله المحكم وسنة رسوله r، الصحيحة.

إن علينا، إذاً، أن نجتهد في بيان حكم الله في هذه المسائل ونحوها، كالمعاملات، التي جدت في سوق العقود، وبخاصة ما يتصل منها بالاقتصاد، أو، الصناعة، أو، المحاصيل الزراعية، والأعمال، التي تقوم بها البنوك العادية[3]، وبنوك التسليف الزراعي والصناعي، والأعمال، التي تقوم بها الجمعيات التعاونية، مثل إقراض المزارعين مثلاً، ما يحتاجون إليه لزراعاتهم، وأمور الاقتصاد وسياسة المال، والشركات بأنواعها المختلفة، وبخاصة شركات التأمين بمختلف ضروبها وتنوع ميادينها، وسياسة الحكم وأصوله، وعلى أي النظم والقواعد يجب أن يكون حكم الأمة، إلى غير ذلك كله من شؤون الحياة، هذه الحياة التي لا تعرف الجمود ولا الوقوف.

ونحمد الله تعالى أن وفق رابطة العالم الإسلامي إلى إنشاء مجمع الفقه الإسلامي، الذي قدم خدمات جليلة للمسلمين، وأصدر قرارات وبحوثاً مهمة في التشريع الإسلامي والمعاملات المعاصرة.

ونسأل الله أن يبارك في أعمال مجمع الفقه، وأن يعم نفعها المسلمين جميعا.

إننا حين نفعل ذلك، من دراسة الفقه الإسلامي دراسة علمية صحيحة، متعاونين مع رجال القانون، وحين نجتهد في بيان حكم هذا الفقه في المعاملات، التي تجرى بيننا، وفي القواعد العامة، التي تقوم عليها سياسة الحكم ونظم الأمة والدولة، إننا حين نفعل ذلك نصل بالفقه الإسلامي إلى أن يكون هو الأساس الأول لتشريعاتنا وقوانيننا، ومن الله العون والتوفيق لكل خير.



[1] على أنه قد يكون من بواعث هذا الاهتمام في القرن التاسع عشر إلى اليوم بخاصة، ما يرجع إلى الناحية الاستعمارية، رغبة في معرفة ماضي البلاد، التي نكبت باستعمارهم وحاضرهم. ولكن تحقيق هذا ليس من قصدنا الآن.

[2] وذلك بعد أن قرر أن الفقه الإسلامي لا تقل عراقته عن عراقة القانون الروماني وهو لا يقل عنه في دقة المنطق ومتانة الصياغة والقابلية للتطور وهو مثله صالح أن يكون قانونا عالميا بل كان بالفعل قانونا عالميا يوم امتدت دولة الإسلام من أقاصي البلاد الآسيوية إلى ضفاف المحيط الأطلسي وهذا الفقه الإسلامي إذا أحييت دراسته وانفتح فيه باب الاجتهاد قادر أن ينبت قانونًا حديثًا لا يقل في الجدة ومسايرة العصر عن القوانين اللاتينية والجرمانية، بل يتفوق عليها.

[3] مثل الخصم: وتحصيل الأوراق التجارية، وفتح الاعتمادات