إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود




الملك عبدالعزيز آل سعود
الملك عبدالعزيز وملك أفغانستان
الملك عبدالعزيز والملك حسين بن طلال
الملك عبدالعزيز والملك عبدالله بن الحسين
الملك عبدالعزيز والملك فاروق
الملك عبدالعزيز والملك فيصل بن الحسين
الملك عبدالعزيز وتشرشل
الملك عبدالعزيز يطالع جريدة





القسم الثامن

القسم الثامن

الملك عبدالعزيز في حفلة الحج السنوية

 

كان من عادة الملك عبدالعزيز، أن يُشرف على موسم الحج، منذ تولى حكم الحجاز، ويقود مواكب الحجيج، ويقيم حفلة سنوية لكبار الحجاج، من كافة أنحاء بلاد المسلمين، ويدعوهم إلى مأدبة عظيمة، ويلقي فيها خطبة بليغة، يدعو فيها إلى إصلاح حال المسلمين، ويبصّرهم بواقعهم. وقد وصف بعض الكتاب هذه الحفلة السنوية. ومنهم على سبيل المثال أحمد الهواري، القاضي بالمحكمة العليا في الرباط. وقد أدى فريضة الحج سنة 1352 ـ1353هـ/1934م، فكتب مقالة عن رحلته نشرها متسلسلة، افتتح بها نحو 25 عدداً من جريدة (السعادة)، التي كانت تصدر في الرباط. قال في إحداها بتاريخ 22 أغسطس 1934م، ما خلاصته:

من الأبنية الفاخرة في مكة، قصر الملك عبدالعزيز، وهو في طريق المعابدة خارج المدينة. ويقيم فيه جلالته وليمة كل سنة، بمناسبة موسم الحج، تدعى إليها نخبة من أعيان كل قطر من الأقطار الإسلامية، الموجودين في أم القرى.

ولما كان موعد الحفلة، وصلنا إلى القصر، فوجدنا واجهته الخارجية لا تختلف كثيراً عن واجهات القصور الملكية الأخرى. وقد فتحت أبوابه، فتخللتها عقود من فوانيس الأضواء الكهربائية، كأنها من لؤلؤ ومرجان، انتشرت بمختلف ألوانها بين السواري والأقواس، حتى ليخيل للناظرين أنهم أمام بناية من أجمل بنايات العواصم الغربية، خصوصاً لمّا اصطفت السيارات في فسحة واسعة هناك، ولمعت ألوانها بين الأضواء المنبعثة، من بعضها على بعض.

ودخل المدعوون من أحد أبواب القصر، إلى حديقة غناء في وسطه. ومنها صعدوا إلى الطابق الأول المشرف على الحديقة. وأدخلهم المكلفون إلى ردهة الانتظار، فوجدنا ردهة واسعة مفروشة بزرابي جميلة وكراسي مذهبة. وقد تدلت من أسقفها اللامعة، ثريات مضيئة وآلات كهربائية مبردة، وأثثت بالمساند الحريرية والمرايا البلورية. وبعد هنيهة دعوا إلى ردهة أخرى اكتمل بها عقد اجتماعهم، وكانت أجمل من الأولى، وأوفى زخرفة، وبهاء وفراشاً. وقد أعدت في صدرها أريكة خاصة بالملك وحاشيته، في مواجهة مقاعد المدعوين، التي كانت صفوفاً صفوفاً، يزيد عددها على الستمائة.

ولما نادى مؤذن المغرب إلى الصلاة، طلع الجميع إلى سطح الدار الواقع في الطابق الثالث، وله منظر جميل يمتد إلى قمم الجبال المجاورة المشرفة عليه، والمنبعث منها هواء طيب، ربما كان من خصائص هذا القصر المنيف. وهناك فرشت الزرابي والسجادات، وتوضأ الناس في بنائق الوضوء الخصوصية. ثم صلى بهم الإمام، وفي ضمنهم بالصف الأول جلالة الملك. يحرسه من قريب، نفران من العبيد السّود من حرسه الخاص، وفي أيديهما السيوف المهندة، أخذاً بالاحتياط. وبعد الصلاة عاد جميع المدعوين إلى الردهة الثانية.

وما إن استقر بهم الجلوس، حتى دخل عليهم الملك، يتقدمه وزراؤه وحارسان أيضاً بملابسهم الحمراء. وهو طويل القامة، ضخم الجثة، واسع الفم، ذو وجه مدور لوحته الشمس، أسمر البشرة، قل أن يوجد من يدانيه في الطول، ذو لحية صغيرة، وبإحدى أصابعه شلل. وقد ارتدى فوق قميصه الأبيض، عباءة سوداء من نسيج الصوف الرقيق. يميل في ذلك إلى البساطة التامة، كما هو شأنه في كل شيء، حتى لم نر من يفضله من رجاله. فحيى الناس بتحية الإسلام، وحيوه بمثلها، وهتفوا هتافاً حاراً بالدعاء له، بالحياة والنصر والتأييد لحماية الدين.

وبعد تبادل بعض عبارات الترحيب، دعاهم بنفسه إلى تناول العشاء معه. وتقدمهم إلى قاعات أخرى نصبت فيها الموائد العديدة على النمط الشرقي، ومدت عليها أنواع الأطعمة الفاخرة، والفواكه والحلويات، والمبردات، مما يتعجب من إتقانه ووجوده هناك.

تصدر الملك المائدة الأولى، وجلس عن يمينه وشماله كبار القوم. كما تصدر نجله الأمير فيصل، حاكم مكة، المائدة الثانية، والأميران محمد وخالد بقية الموائد الأخرى. وقد رأينا لجلالته، أيضاً، على مائدة الطعام البساطة التامة، بحيث أنه يحادث الناس من دون كلفة، ويعاملهم معاملة الأخ المسلم لأخيه، مع المجاملة والهش في الوجوه، من دون الخروج عن دائرة الجد والآداب.

وبعد الطعام انتقل وضيوفه إلى المجلس الكبير، في الطابق العلوي. فتصدر المجلس، وجلس حوله كبار رجال دولته، ونخبة من العلماء. كما جلس بالقرب منه سلطان مسقط، وأديرت على الجميع أكواب القهوة العربية.

ثم أخذ، وهو جالس على أريكته ـ حسب عادته ـ ينثر على الأسماع خطبته الطويلة، التي ارتجلها، وأتى فيها بما أثلج الصدور، وأثر في النفوس. تكلم نحو الساعة، بلسان بين، لا تلجلج فيه ولا توقف، ولا تقيد بأساليب البلغاء أو قواعد اللغة، بل بمطلق لهجة أهل نجد، مع الركون في الغالب إلى المسحة الدينية، وإيراد الأحاديث والآيات الكثيرة.

بدأ فيها بالإعراب عن سروره، وشكره لله، الذي جمع عنده هذا الجمع الحافل من جميع الأقطار. ثم رحب بضيوفه. وعرج بعد ذلك على بيان مبدئه، وماله من التمسك بحبل الله المتين من اتباع الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح. كما أتى في الختام على شرح موقفه إزاء الإمام يحيى، وبيان أصل سوء التفاهم بينهما، وما يسعى فيه هو من جهته لإصلاح ذات البين، من غير اهراق دماء، ولا ضياع حق أحد.

وما كاد ينتهي من كلامه، حتى قام أحد علماء الهند، وكان يلتقط الكلام بطريق الاختزال، فترجمه لأبناء جنسه إلى اللغة الأردوية، فتأثروا لها أيما تأثر، وقابلوها بالتصفيق المتواصل.

ثم ألقى بعض الخطباء والشعراء ما يناسب المقام. فكان مظهراً من مظاهر ملوك الإسلام، ومجلساً من مجالسهم الحافلة بالعلم والآداب، على نهج ما رواه لنا تاريخ جزيرة الأندلس وغيرها. وانتهت الحفلة فخرجنا بين مظاهر الحفاوة والسرور.

1. الاعتداء على الملك عبدالعزيز في المطاف

كان من عادة الملك حين يحج، أن يخرج من منى قبيل طلوع الشمس، من أول أيام عيد الأضحى، فيأتي مكة، فيطوف طواف الإفاضة، ويصلي صلاة العيد، ثم ويعود إلى منى في الضحى.

وقد أقبل ـ كعادته ـ من صباح العاشر من ذي الحجة 1353هـ/ 15 مارس 1935مالى مكة، فباشر الطواف، وخلفه ابنه، وولي عهده، الأمير سعود، وبعض رجالهما.

وبعد أن أكمل الشوط الرابع، وابتدأ الخامس، بعد استلام الحجر الأسود، فلمّا كان عند باب الكعبة، برز رجل من فجوة في شمالي حِجْر إسماعيل، وقد سل خنجراً، وصاح صيحات منكرة، فيها تهديد ووعيد وسباب. وقفز منقضاً على الملك، من ورائه. فما كان من الأمير سعود إلاّ أن ألقى نفسه على أبيه، يقيه الطعنة، ودفع المجرم بيده. وانطلقت من الحراس رصاصة، أصابت رأس المجرم فأردته قتيلاً. وعلت صيحة شخص كامن آخر، كان في فجوة ثانية من فجوات الحِجْر، وانقض بخنجره يريد الملك؛ فمس الخنجر أسفل الكتف اليسرى من ظهر الأمير سعود، وجرحه، ووثب شخص ثالث، مقبلاً من ناحية الركن اليماني، فلمح صاحبيه مضرجين بدمهما، فانطلق يبغي الفرار. وكان مقتل الأول برمية عجيبة من بندقية حارس الملك الخاص ـ واسمه عبدالله البرقاوي ـ فقد خشي أن يطلقها مصوبة، فتصيب مع المجرم غيره، فوثب ناكساً بندقيته، وإبهامه على الزند، وصبّ الرمية صباً. وقتل الثاني برصاصة من حارس الأمير سعود ـ واسمه خير الله ـ أما الثالث، فلم ينج من رصاص الجند، ولكن ظل في رمق من الحياة فاستطاع المحققون أن يعرفوا أن اسمه علي. وكان الجناة الثلاثة من الشيعة الغلاة في اليمن.

مر الحادث بسرعة، وقد فتك أحد هؤلاء الأشقياء بشرطي سعودي، يُدعى أحمد بن موسى العسيري، وجرحوا آخر. وتوقف الملك عبدالعزيز عن الطواف قليلاً، يُجيل نظره في الحرم. فلمّا رأى أن الثلاثة لا رابع لهم، أمر بإغلاق أبواب الحرم؛ وعاد إلى إتمام طوافه، كأن لم يكن هناك شيء. وخرج بعد الشوط السابع مسرعاً إلى منى، قبل انتشار الخبر في الحجيج.

وكان وفد الحج اليماني كبيراً ذلك العام، يقارب عشرة آلاف حاج، بينهم عبدالله بن الوزير، من سادة اليمن ودهاة رجاله.

وانصرف همّ الملك، على الأثر إلى كف الحجاج، من أهل نجد على الخصوص ـ وكانوا يزيدون على مئة ألف ـ عن أن يمسوا أحداً من اليمانيين بسوء؛ لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى.

وأقبل الملك إلى منى، وقد علق بساقه رشاش من حصى أرض الحرم، عند إطلاق الرصاص. فدخل مضربه الكبير، وأجلس على مقربة منه عبدالله بن الوزير. وتوافد الناس، وقد فشا فيهم خبر الحادث، يهنئون الملك بالنجاة وبالعيد معاً. وفي مخيم الأمير سعود، كان طبيب الملك الخاص، يغسل جرحه ويجدد تضميده.

واكتشف مدير الأمن العام، مهدي المصلح،  حقيقة المجرمين الثلاثة، والمكان الذي كانت إقامتهم فيه، بعد جهد استمر ثلاثة أيام.

وتلقى الملك برقية من الإمام يحيى، يستنكر فيها الحادث ويستفظعه، ويبرأ إلى الله من جريرته.

وتهامس الناس فيمن تعلق به التهمة، في تدبير هذه المؤامرة بصنعاء، فاتجهت إلى سيف الإسلام أحمد، كبير أبناء الإمام يحيى.

2. صدى الحادث

وكان للحادث صداه البعيد في خارج البلاد. رددته صحف العالم، وعللت وعلقت، شأنها فيما هو أقل منه أثراً وخطراً.

وكان من حجاج ذلك العام، مراسل لجريدة البلاغ القاهرية، فكتب في 19مارس 1935م:

أعجب ما في حادث التعرض للملك ابن سعود في مكة، أنه ابتدأ وانقضى في دقائق، فلم تصادر حرية أحد، حتى من اليمانيين، الذين يقدر عدد الموجود منهم بمكة يومئذ بعشرة آلاف شخص، ولم يروّع أحد بالقبض عليه، للتحقيق أو الشهادة، كما تفعل البلاد الأخرى، في حوادث لا تكاد تكون لها قيمة، بالنسبة إلى هذا الحادث. ولم يمض أكثر من ثلاثة أيام، حتى كانت الحكومة قد اكتشفت هوية المجرمين، وضبطت أوراقهم وأمتعتهم. ولم يزج في السجن غير شخص واحد، علمت الحكومة أن له علاقة بالمؤامرة، فأطلقت رجال البوليس يبحثون عنه، ولا يشعر بهم أحد. وما زالت وراءه إلى أن ثقفته في جدة فاعتُقل، وجيء به إلى مكة، حيث اعترف ببعض ما عرف. وما برح يدلي بما عنده.

ويخدع نفسه من يزعم أن الحادث لم يكن خطيراً جللاً، أو من يظن أن طبيعة الناس، الذين يشغلهم مثل هذا الحادث زمناً طويلاً، قد تبدلت وعادت حدتها سكينة، وانقلب اضطرابها وفضولها، طمأنينة وهدوءاً. فالأمر جد خطير، والناس هم الناس ولا سيما في موسم كموسمهم هذا، وقد قضوا بعض مناسك حجهم وعبادتهم، وفرغوا للقيام بجلسة الراحة في منى، وأصبح مجال القول ذا سعة، لكل قائل.

ولكن السر في الأمر، يعود إلى مرجع واحد، لا يتعداه. هو ضبط الملك أعصابه، وظهوره بمظهر، لا أظن غيره كان يستطيعه، في ساعة الحادث، وفي يومه، وإلى الآن.

إلى أن يقول:

وسقط الشقيان الأولان قتيلين، وخف الثالث بجرحه يريد الفرار، وخنجره في يده؛ فقُبض عليه ومات قبل أن يصل إلى المخفر.

وكان الملك، ومن معه، قد طافوا بالكعبة ثلاثة أشواط؛ فعاد الملك ومعه من ورائه، فأتموا الأشواط السبعة، ودم الهالكين وجثتاهما تحت أقدامهم. وهمس هامس في أذن الملك، بأن فلاناً ـ من الحجاج ـ قد يكون مدبر الفتنة. وأخبره آخر بأن رجال نجد متفرقون في مكة ومنى ومزدلفة، وإلى جانبهم وبينهم حجاج اليمن، من زيدية وشافعية؛ فلم يكن منه إلا أن زجر من سمى له الشخص الأول، وقال: لا أريد أن تحدثوني بمثل هذا. وأرسل الرسل، قبل أن يبرح المسجد، يبلغون الناس إرادته، في أن من اعتدى على يمني فهو خصمه، وعقاب القاتل القتل.

وبرح مكان الحادث، فركب سيارته تتبعه حاشيته بسياراتها إلى قصره الملكي، في منى.

وجلس يستقبل المهنئين استقبالاً عاماً، وفي مقدمتهم عبدالله بن الوزير، معتمد الإمام يحيى في مفاوضات الصلح الأخيرة بالطائف، والملك أمان الله، ملك الأفغان السابق، وبعض كبراء الحجاج، وزعماء نجد، وأعيان الحجاز. فكان الملك يقابل كل قادم بالبشاشة المعهودة فيه، ولسانه لا يفتر يحذّر رؤساء النجديين، ألاّ يتعدى أحد رجالهم، على أحد من أهل اليمن.

ولا أنسى منظراً شهدته، أول ما دخلت على جلالته، في جملة المهنئين؛ إذ لمحت أحد ثقاته يتقدم منه فيقبل يده، وقد طفرت دمعة من عينه، فيزجره الملك بعنف، ويقول له بصوت أقرب إلى الهمس: كن رجلاً!

وكذلك تناول الحادث مراسل جريدة الأهرام، في مكة، فشرحه في 21 مارس 1935م، بما يستفاد منه:

أ. إن الجناية لا يمكن أن يقتصر النظر فيها على الأشخاص القائمين بها.

ب. إن الجريمة تم تدبيرها، قبل مغادرة مقترفيها بلادهم.

ج. إن الجناة اعتزلوا إخوانهم الزيدية، وقدموا مع الشوافع، ولم يشتركوا في الحج والإحرام، بل ظلوا في ثيابهم لم يتجردوا منها، ونزلوا في بيت واحد.

د. ثم يقول: لم أرَ زيدياً ينزل في دار بمكة، وكل من رأيت منهم، ينامون في كهوف الجبال ومغاورها، منتشرين على طريق مكة إلى عرفات، أو يتمددون إذا جن الليل في جوانب الشوارع والأزقة بمكة، إلى أن يصبح الصباح فينطلقون في الحرم.

هـ. ويقول: وأكثر الناس لا يوجهون التهمة بتدبير المؤامرة إلى الإمام يحيى، ولكنهم يسكتون عند ذكر سيف الإسلام أحمد، ولي عهد اليمن. وقد بلغني من ثقة كثير الاجتماع بابن الوزير، أن هذا سمع بإشاعة اتهام سيف الإسلام، فلم يدفعها بغير الإطراق وإظهار الأسف.